في اعتقادنا أنَّ
الذين يَتَجَرَّعون سُمَّ مرارة التخلُّف والنكوصية في العالَم العربي
والإسلامي، ويلوكون علقمها - كثيرون، وإنِ اختلفت مستوياتهم المادية،
والمعرفية، والثقافية، ولكن في المقابل يسعى الإنسان بتفكيره الخلاَّق
والمتَّزِن جاهدًا إلى كسر الحواجز، وتهشيم الأقنعة، واختراق الحجب، بصيغة
أخرى: في وضع صعب للغاية كهذا، لا يمكنك إلا أن تكونَ متفائلاً، وألا تنظرَ
بحذاقة إلى النِّصف الفارغ من الكأس، فبعد أن تكونَ وصلتَ إلى القعر
تمامًا، لا يمكن لك إلاَّ أن تأمل أنَّ الأمورَ تسير ثانية نحو الأفضل.
وما النموذج الياباني والبُلدان الصناعية الجديدة، أو التِّنِّينات الأربعة - كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة - عنا ببعيد، التي استطاعت في وقت وجيزٍ أن تخرجَ من رمضاء ودياجير التخلُّف، إلى نور التقدُّم والتصنيع.
أسئلة متشابكة ومحيرة في نفس الآن، تتقاطر على ذهن الإنسان العامي والمثقف، كلما تعلق الأمر بإشكالية معالجة داء التخلُّف، الذي اتَّسَع فتقُه، واستعصى على الراقع لَمْلَمةُ جراحه في هذه المرحلة، هل هو مرتبط بالظروف الجغرافية - البيئية (المناخية، الطبيعية: التضاريس الوعرة...)، التي يَتَحَتَّمُ علينا الركوع والخنوع لها؛ إجلالاً لها؛ لعَدَم قُدرتنا على التصرُّف فيها، وتغيير معالمها ونتوءاتها، حسب زعم المدرسة الحتمية، التي يتزعمها راتزل، أو بالظُّروف الثقافية الكلاسيكيَّة، التي تنظر إلى كلِّ جديدٍ وغير مألوف نظرةَ المتلكِّئ والرافض؟
من جهةٍ أخرى: هل تخلُّفُنا راجعٌ إلى عدم الأخْذ بالأسلوب العلمي، أو أن ذلك يعود إلى غياب دولة المؤسَّسات، وسيادة القانون، والديمقراطية، وحُقُوق الإنسان، أو إلى عوامل خارجيَّة منَظمة، تَهْدف لإبقاء الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسية العالَميَّة على حالِها؛ للحفاظ على مصالح الدول الكبرى، وذلك بقمْع كل النتوءات الفكرية والعلمية، وجَعْلها عقليَّة مُسطحة وساذجة، ومتساوية التفكير، وإن كان باختلافات طفيفة - كما هو حاصلٌ بين بيبسي كولا، وكوكا كولا - أو باللغة الأمريكية: معنا أم ضدنا؟
ثم هل مشكلة ومعضلة التخلُّف عرَضيَّة وظرفية، مَرَّتْ بها كلُّ الدول التي تصنَّف حاليًّا بالمتقدمة، أو قدر محتوم يستحيل على البلدان التي تسمَّى زيفًا وزورًا - وإن شئتم حياء - بالدول النامية تخطِّيها، حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط، انطلاقًا منَ المقولة المشهورة التبريرية للفكر الاستعماري، والتي انجَرَّ وراءها أبناءُ جلدتنا منَ الأدباء والمفكرين، الذين قسموا العالم إلى نوعين من الأجناس: نوع متفوق بطبعه، وآخر متخلف بطبعه، وأن الأول يتحمَّل مسؤولية تمدْيُن الثاني، وتحدث الإنجليزي "روديار كيبلينغ" عن عبْء الرجل الأبيض: "الرجلُ الأسود عبء على الرجل الأبيض، فالغرب غرب، والشرق شرق، وهما لا يلتقيان".
ومِن ثَمَّ فتحليل مثل هذه الإشكالات يحتاج إلى تعاوُنِ وتضافُرِ مَجْهُوداتِ النُّخبةِ المثقَّفة، كلٌّ من موقعه الثقافي والعلمي - أي: تخصُّصه - لِمُحَاوَلة تغطية هذا الحَدَث الأليم، وذلك بتشخيص الداء، وذلك من مُنطلق: "الاعتراف بالمرض أرفع درجات العلاج"، وسأقتصر مِن جانبي في هذا المقال على الرد على بعض التصوُّرات التي تحاوِل جعْل التخلُّفِ نبتةً طبيعية - أو بالأحرى: جغرافية - يستحيل اقتلاعها.
يقول نيتشه: "إنَّ القضايا الكبرى مثل الحمام البارد، ومن الأفضل الخروج منه بأسرع من دخوله"، وفي موضوعنا المتشابك هذا، الذي أرَّقَ الباحثين والمفكِّرين والسياسيين، الذي يتصل بقضيَّة كبرى، وهي تخلُّف البلدان العربيَّة والإسلاميَّة، سأحاول قدر المُسْتَطاع بقراءة بانورامية واستعراضية - وبطبيعة الحال لن تحيط بكل شاردة وواردة - أن أدخل بسرعة من خلال الطواف والإطلالة على بعض التصورات التي تحاول إلصاق التخلف بمجتمعاتنا - كطابع بريدي، أو ورقة أثمان يستحيل التصرف فيها - من خلال دراسة الإنسان، ونشاطاته، وعلاقاته بالظروف الجغرافية[1] (وأقصد هنا الطبيعية، والمناخية، والأيكولوجية، والبشرية)، التي تعوق مسيرة الإنسان المتخلف - بطبيعة الحال ماديًّا واقتصاديًّا - ولكنني لا أدري إن كنت سأوفق في الخروج منه بالسرعة نفسها.
وجِسم هذا الموضوع يمكن تشريحه إلى ثلاث مناطق بحثية تالية:
وما النموذج الياباني والبُلدان الصناعية الجديدة، أو التِّنِّينات الأربعة - كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة - عنا ببعيد، التي استطاعت في وقت وجيزٍ أن تخرجَ من رمضاء ودياجير التخلُّف، إلى نور التقدُّم والتصنيع.
أسئلة متشابكة ومحيرة في نفس الآن، تتقاطر على ذهن الإنسان العامي والمثقف، كلما تعلق الأمر بإشكالية معالجة داء التخلُّف، الذي اتَّسَع فتقُه، واستعصى على الراقع لَمْلَمةُ جراحه في هذه المرحلة، هل هو مرتبط بالظروف الجغرافية - البيئية (المناخية، الطبيعية: التضاريس الوعرة...)، التي يَتَحَتَّمُ علينا الركوع والخنوع لها؛ إجلالاً لها؛ لعَدَم قُدرتنا على التصرُّف فيها، وتغيير معالمها ونتوءاتها، حسب زعم المدرسة الحتمية، التي يتزعمها راتزل، أو بالظُّروف الثقافية الكلاسيكيَّة، التي تنظر إلى كلِّ جديدٍ وغير مألوف نظرةَ المتلكِّئ والرافض؟
من جهةٍ أخرى: هل تخلُّفُنا راجعٌ إلى عدم الأخْذ بالأسلوب العلمي، أو أن ذلك يعود إلى غياب دولة المؤسَّسات، وسيادة القانون، والديمقراطية، وحُقُوق الإنسان، أو إلى عوامل خارجيَّة منَظمة، تَهْدف لإبقاء الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسية العالَميَّة على حالِها؛ للحفاظ على مصالح الدول الكبرى، وذلك بقمْع كل النتوءات الفكرية والعلمية، وجَعْلها عقليَّة مُسطحة وساذجة، ومتساوية التفكير، وإن كان باختلافات طفيفة - كما هو حاصلٌ بين بيبسي كولا، وكوكا كولا - أو باللغة الأمريكية: معنا أم ضدنا؟
ثم هل مشكلة ومعضلة التخلُّف عرَضيَّة وظرفية، مَرَّتْ بها كلُّ الدول التي تصنَّف حاليًّا بالمتقدمة، أو قدر محتوم يستحيل على البلدان التي تسمَّى زيفًا وزورًا - وإن شئتم حياء - بالدول النامية تخطِّيها، حتى يلج الجمل في سَمِّ الخياط، انطلاقًا منَ المقولة المشهورة التبريرية للفكر الاستعماري، والتي انجَرَّ وراءها أبناءُ جلدتنا منَ الأدباء والمفكرين، الذين قسموا العالم إلى نوعين من الأجناس: نوع متفوق بطبعه، وآخر متخلف بطبعه، وأن الأول يتحمَّل مسؤولية تمدْيُن الثاني، وتحدث الإنجليزي "روديار كيبلينغ" عن عبْء الرجل الأبيض: "الرجلُ الأسود عبء على الرجل الأبيض، فالغرب غرب، والشرق شرق، وهما لا يلتقيان".
ومِن ثَمَّ فتحليل مثل هذه الإشكالات يحتاج إلى تعاوُنِ وتضافُرِ مَجْهُوداتِ النُّخبةِ المثقَّفة، كلٌّ من موقعه الثقافي والعلمي - أي: تخصُّصه - لِمُحَاوَلة تغطية هذا الحَدَث الأليم، وذلك بتشخيص الداء، وذلك من مُنطلق: "الاعتراف بالمرض أرفع درجات العلاج"، وسأقتصر مِن جانبي في هذا المقال على الرد على بعض التصوُّرات التي تحاوِل جعْل التخلُّفِ نبتةً طبيعية - أو بالأحرى: جغرافية - يستحيل اقتلاعها.
يقول نيتشه: "إنَّ القضايا الكبرى مثل الحمام البارد، ومن الأفضل الخروج منه بأسرع من دخوله"، وفي موضوعنا المتشابك هذا، الذي أرَّقَ الباحثين والمفكِّرين والسياسيين، الذي يتصل بقضيَّة كبرى، وهي تخلُّف البلدان العربيَّة والإسلاميَّة، سأحاول قدر المُسْتَطاع بقراءة بانورامية واستعراضية - وبطبيعة الحال لن تحيط بكل شاردة وواردة - أن أدخل بسرعة من خلال الطواف والإطلالة على بعض التصورات التي تحاول إلصاق التخلف بمجتمعاتنا - كطابع بريدي، أو ورقة أثمان يستحيل التصرف فيها - من خلال دراسة الإنسان، ونشاطاته، وعلاقاته بالظروف الجغرافية[1] (وأقصد هنا الطبيعية، والمناخية، والأيكولوجية، والبشرية)، التي تعوق مسيرة الإنسان المتخلف - بطبيعة الحال ماديًّا واقتصاديًّا - ولكنني لا أدري إن كنت سأوفق في الخروج منه بالسرعة نفسها.
وجِسم هذا الموضوع يمكن تشريحه إلى ثلاث مناطق بحثية تالية:
1- المؤشرات والمعايير الدولية للتخلف.
2- المدارس الجغرافية الكبرى وإشكالية التخلف.
3- وجهة نظر: مساهمة أبستمولوجية.
إن معالجة مواضيع من هذا القبيل ليس ضربًا من الترف الفكري، وإنما ينمُّ عن مرارة التأخر في اللحاق بالدول المتقدمة، التي تتسيَّد على العالم من منطلق ترساناتها العسكرية، وتسعى جاهدة إلى فرض هيمنتها على الدول المتأخرة، على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي (العولمة الاقتصادية والثقافية، والتبعية بأنواعها المختلفة).
لا يخلو أي عمل للكتَّاب البورجوازيين الذين تعرَّضوا لقضايا العالم الثالث - مهما كانت قيمته - من بحثِ صفاتِ التخلفِ، وجوهره، وأسبابه، ومقاييسه، وهذا أمر طبيعي جدًّا، فالوضع الراهن لبلدان العالم الثالث لا يحتاج إلى مناقشات عامة؛ بل إلى توجيهات محددة في إعداد برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ لكن معالجة المرض تحتاج قبل كل شيء - في رأي هؤلاء الكتاب البورجوازيين - إلى تشخيص أعراضه؛ ولذا اضطروا إلى بدء بحثهم بالإجابة عن الأسئلة التالية: ما التخلف؟ وبماذا يتحدد؟ وما العوامل الأساسية التي تعوق بلدان العالم الثالث في محاولاتهم القضاء على التخلف - وبخاصة تخلفها الاقتصادي - في أقصر وقت ممكن، وبأقل التكاليف؟[2].
1- المؤشرات والمعايير الدولية للتخلف:
إن معالجة مواضيع من هذا القبيل ليس ضربًا من الترف الفكري، وإنما ينمُّ عن مرارة التأخر في اللحاق بالدول المتقدمة، التي تتسيَّد على العالم من منطلق ترساناتها العسكرية، وتسعى جاهدة إلى فرض هيمنتها على الدول المتأخرة، على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الثقافي (العولمة الاقتصادية والثقافية، والتبعية بأنواعها المختلفة).
لا يخلو أي عمل للكتَّاب البورجوازيين الذين تعرَّضوا لقضايا العالم الثالث - مهما كانت قيمته - من بحثِ صفاتِ التخلفِ، وجوهره، وأسبابه، ومقاييسه، وهذا أمر طبيعي جدًّا، فالوضع الراهن لبلدان العالم الثالث لا يحتاج إلى مناقشات عامة؛ بل إلى توجيهات محددة في إعداد برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ لكن معالجة المرض تحتاج قبل كل شيء - في رأي هؤلاء الكتاب البورجوازيين - إلى تشخيص أعراضه؛ ولذا اضطروا إلى بدء بحثهم بالإجابة عن الأسئلة التالية: ما التخلف؟ وبماذا يتحدد؟ وما العوامل الأساسية التي تعوق بلدان العالم الثالث في محاولاتهم القضاء على التخلف - وبخاصة تخلفها الاقتصادي - في أقصر وقت ممكن، وبأقل التكاليف؟[2].
1- المؤشرات والمعايير الدولية للتخلف:
التخلف مصطلح مطاطي، ولفظة شائعة
الاستخدام، يرتبط مدلولها بنمط العلاقة بينها وبين مستخدمها، فنقول: التخلف
الاقتصادي، التخلف الزراعي، التخلف الصناعي، تعليم متخلف، نمط عيش متخلف،
ويعني ذلك علاقة النشاطات البشرية المتعلقة بهذه المجالات.
في هذه الآونة الأخيرة، لم يركز المجتمع الدولي، وتقارير التنمية البشرية العربية على مفهوم التخلف، بقدر ما ركز على مقومات ودعائم التنمية، كعمل ماكياج أو ستار خشبة مسرح الدول المتخلفة؛ لطمس معالم التخلف من خلال استنبات واختراع مصطلحات جديدة، لا محل لها من الإعراب: الدول النامية، الدول السائرة في طريق النمو، دول الجنوب، الدول شبه النامية؛ ولكن بالضد تتبين الأشياء كما يقال.
انطلاقًا من هذه المعايير الموضوعة للحكم على تنمية بلدان الجنوب؛ نستخلص مؤشرات التخلف، وما مدى مطابقتها لرغبات وتطلعات الشعوب المتعطشة للخروج من مستنقعها الآسن.
في هذا الإطار، نجد البذرة الأولى في التعاطي مع هذه المؤشرات، وإن كان بمسميات أخرى مع المفكرين الرواقيين والإبيقوريين في العصر الهلنستي، الذين ميزوا بين الحاجات الحقيقية والزائفة، كمعيار للمفاضلة بين الحياة الصالحة والحياة الطالحة، وهو ما يتضح بشكل كبير في تمييز إبيقور بين حاجة ضرورية كالماء، وأخرى غير ضرورية كالرغبة في احتساء عصير جيد، وهو عين ما ارتآه مفكرون تنويريون.
والذين فرَّقوا بين الحاجات الطبيعية والإنسانية، مشيرًا إلى أن الخلل في إشباعها يكمن في الاستعمال السيئ للموارد؛ بسبب تقسيم العمل، وظهور الملكية؛ مما يؤدي إلى استئثار القلة بوسائل الإنتاج، سيما الأرض، ومن ثم التحكم في حاجة الكثرة للإنتاج، كما هو الحال حاليًّا بالنسبة للبلدان التي تسيطر تقريبًا على 58 % من ثروات العالم[3].
* جرد تاريخي لمعايير قياس التقدم والتخلف:
في هذه الآونة الأخيرة، لم يركز المجتمع الدولي، وتقارير التنمية البشرية العربية على مفهوم التخلف، بقدر ما ركز على مقومات ودعائم التنمية، كعمل ماكياج أو ستار خشبة مسرح الدول المتخلفة؛ لطمس معالم التخلف من خلال استنبات واختراع مصطلحات جديدة، لا محل لها من الإعراب: الدول النامية، الدول السائرة في طريق النمو، دول الجنوب، الدول شبه النامية؛ ولكن بالضد تتبين الأشياء كما يقال.
انطلاقًا من هذه المعايير الموضوعة للحكم على تنمية بلدان الجنوب؛ نستخلص مؤشرات التخلف، وما مدى مطابقتها لرغبات وتطلعات الشعوب المتعطشة للخروج من مستنقعها الآسن.
في هذا الإطار، نجد البذرة الأولى في التعاطي مع هذه المؤشرات، وإن كان بمسميات أخرى مع المفكرين الرواقيين والإبيقوريين في العصر الهلنستي، الذين ميزوا بين الحاجات الحقيقية والزائفة، كمعيار للمفاضلة بين الحياة الصالحة والحياة الطالحة، وهو ما يتضح بشكل كبير في تمييز إبيقور بين حاجة ضرورية كالماء، وأخرى غير ضرورية كالرغبة في احتساء عصير جيد، وهو عين ما ارتآه مفكرون تنويريون.
والذين فرَّقوا بين الحاجات الطبيعية والإنسانية، مشيرًا إلى أن الخلل في إشباعها يكمن في الاستعمال السيئ للموارد؛ بسبب تقسيم العمل، وظهور الملكية؛ مما يؤدي إلى استئثار القلة بوسائل الإنتاج، سيما الأرض، ومن ثم التحكم في حاجة الكثرة للإنتاج، كما هو الحال حاليًّا بالنسبة للبلدان التي تسيطر تقريبًا على 58 % من ثروات العالم[3].
* جرد تاريخي لمعايير قياس التقدم والتخلف:
- مقياس الدخل الحقيقي للسكان:
منذ خمسين عامًا، كان المؤشر الذي حظي بأكبر قدر من الاتفاق بين
الاقتصاديين لقياس التقدم والتخلف - هو مؤشرَ متوسط الدخل؛ أي: حجم الدخل
الحقيقي المتاح للفرد الواحد من السكان، والمقصود بوصف "الحقيقي": الإشارة
إلى السلع والخدمات، وليس إلى قيمتها النقدية التي قد تتقلب من وقت لآخر،
دون أن يعكس هذا التقلب بالضرورة تقدمًا أو تخلفًا.
- مقياس إشباع الحاجات الأساسية: في أوائل السبعينيات ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين، يسلِّط الضوءَ على شيء آخر غير متوسط الدخل، وهو ما سمي بإشباع الحاجات الأساسية، واعتَبر أصحاب هذا الاتجاه أن هذا المعيار أفضل بكثير من معيار متوسط الدخل كمقياس للتقدم والتخلف؛ للحكم على مدى نجاح أو فشل التنمية؛ وذلك لسببين:
- مقياس إشباع الحاجات الأساسية: في أوائل السبعينيات ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين، يسلِّط الضوءَ على شيء آخر غير متوسط الدخل، وهو ما سمي بإشباع الحاجات الأساسية، واعتَبر أصحاب هذا الاتجاه أن هذا المعيار أفضل بكثير من معيار متوسط الدخل كمقياس للتقدم والتخلف؛ للحكم على مدى نجاح أو فشل التنمية؛ وذلك لسببين:
الأول:
أن الحاجاتِ الإنسانيةَ ليست متساوية في الأهمية، وزيادة الدخل قد تستخدم
لإشباع هذه الحاجة أو تلك، ومن ثم فالانشغال بزيادة الدخل قد يعني
الانشغالَ بإشباع حاجات قليلة الأهمية - كمطالب القلة المترفة مثلاً - على
حساب حاجات أكثر أهمية؛ كتوفير الغذاء الضروري، أو الملبس، أو المسكن
الملائمين.
الثاني: أن هناك من الحاجات الإنسانية ما لا يدخل في حساب الدخل، فالدخل قد يزيد، لكن يزيد أيضًا معدلُ البطالة، والزيادة في الأسعار، فلا تدل زيادة الدخل على ارتفاع مستوى الرفاهية.
- مؤشر التنمية البشرية: لتجاوز عيوب ونقائص مؤشر الدخل الفردي؛ وضع برنامج الأمم المتحدة للتنمية منذ 1990 مؤشرًا جديدًا، هو مؤشر التنمية البشرية، ويمزج هذا المعيار بين ثلاثة عناصر:
الثاني: أن هناك من الحاجات الإنسانية ما لا يدخل في حساب الدخل، فالدخل قد يزيد، لكن يزيد أيضًا معدلُ البطالة، والزيادة في الأسعار، فلا تدل زيادة الدخل على ارتفاع مستوى الرفاهية.
- مؤشر التنمية البشرية: لتجاوز عيوب ونقائص مؤشر الدخل الفردي؛ وضع برنامج الأمم المتحدة للتنمية منذ 1990 مؤشرًا جديدًا، هو مؤشر التنمية البشرية، ويمزج هذا المعيار بين ثلاثة عناصر:
1- متوسط الدخل، ويمثله الناتج الداخلي للفرد.
2- مستوى المعرفة، والذي تمثله نسبة الأمية عند البالغين، ومعدل مستوى الدراسة.
3- ومستوى الصحة، الذي يمثله متوسط أمد الحياة عند الولادة.
وهكذا رتبت بلاد العالم، بعضها فوق البعض، على مدى نجاحها أو فشلها في الارتفاع بمتوسط الدخل، وزيادة العمر المتوقع عند الميلاد، وفي محو الأمية، وزيادة نسبة المسجلين بالمدارس.
حاز هذا المعيار الجديد للتقدم والتخلف شهرةً كبيرة، ولكن هو الآخر تعتريه عيوبٌ ونقائصُ؛ لأنه لا يقيس إلا عددًا محدودًا من الحاجات الإنسانية تم اختيارها اعتباطًا، واستبعد أشياء لا تقل أهمية في التأثير على الرفاهية، والشعور بالكرامة الإنسانية، وسبق لنا ذكره؛ كالبطالة، ونمط العلاقات الاجتماعية، ومدى الشعور بالاستقرار والطمأنينة للمستقبل، والحريات السياسية والفردية، ومدى انتشار الجريمة بأنواعها، الناجمة إما عن أشكال الفقر المدقع، أو عن حب الشراهة والتخمة.
إن مثل هذه المحاولة لا بد أن تُحدث من التضليل أكثر مما تحدثه من التنوير، وقد تستخدم استخدامات خاطئة للإيحاء بأشياء بعيدة عن الحقيقة، ومهما قال أصحاب هذا المعيار والمدافعون عنه، مِن أنه لم يقصد به الإحاطة بكل جوانب التقدم الإنساني، ومهما قيل إن هناك مجالاً واسعًا لتحسينه، وزيادة حظِّه، والدقة فيه - فسيظل هذا المؤشر خطرًا من حيث إنه يمكن أن يستخدم لإخفاء أشياء مهمة، وتضخيم أشياء أقل أهمية.
- مقياس التنمية الإنسانية: وجاء به "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002"؛ ليزيد الطين بِلَّة، احتفظ التقرير بمؤشري العمر المتوقع عند الميلاد، ومستوى التعليم، وأضاف إليهما أربعة مؤشرات جديدة، هي: الحرية، ومركز المرأة (أو ما أسماه: تمكين النوع)، ودرجة الاتصال بشبكة الإنترنت، ودرجة نظافة وتلوث البيئة، فأصبحت المؤشرات ستةً بعد أن كانت ثلاثة، ولكن المهم أن نلاحظ أنه استبعد تمامًا ذلك المؤشر القديم والمشهور، وهو متوسط الدخل.
نعم، كنا نعرف أن هذا المؤشر قاصر عن الإحاطة بكل جوانب الرفاهية، كما هو بالنسبة لبعض دول الخليج؛ كقطر مثلاً (متوسط الدخل الفردي 15140 دولار عام 1994)، ولكن علاج هذا القصور هو باستكمال النقص، فما معنى القول: إن الحرية هي الوسيلة الأساس لتمكين البشر؟ وما قيمة الحرية إذا لم تقترن بالحصول على الدخل؟![4].
على ضوء هذه المؤشرات المزيفة التي تحاول إيهام البلدان المتخلفة أنها على الدرب؛ وذلك بإقصاء مقاييس أكثر أهمية مثل التصنيع، خاصة وأن البلدان المتخلفة تركز على أنشطة صناعية، يمكن تسميتها هامشية، لا يمكن أن تشكل ثورة كوبرنيكية، وطفرة نوعية للحاق بالدول المتقدمة، على حد قول الشاعر:
وهكذا رتبت بلاد العالم، بعضها فوق البعض، على مدى نجاحها أو فشلها في الارتفاع بمتوسط الدخل، وزيادة العمر المتوقع عند الميلاد، وفي محو الأمية، وزيادة نسبة المسجلين بالمدارس.
حاز هذا المعيار الجديد للتقدم والتخلف شهرةً كبيرة، ولكن هو الآخر تعتريه عيوبٌ ونقائصُ؛ لأنه لا يقيس إلا عددًا محدودًا من الحاجات الإنسانية تم اختيارها اعتباطًا، واستبعد أشياء لا تقل أهمية في التأثير على الرفاهية، والشعور بالكرامة الإنسانية، وسبق لنا ذكره؛ كالبطالة، ونمط العلاقات الاجتماعية، ومدى الشعور بالاستقرار والطمأنينة للمستقبل، والحريات السياسية والفردية، ومدى انتشار الجريمة بأنواعها، الناجمة إما عن أشكال الفقر المدقع، أو عن حب الشراهة والتخمة.
إن مثل هذه المحاولة لا بد أن تُحدث من التضليل أكثر مما تحدثه من التنوير، وقد تستخدم استخدامات خاطئة للإيحاء بأشياء بعيدة عن الحقيقة، ومهما قال أصحاب هذا المعيار والمدافعون عنه، مِن أنه لم يقصد به الإحاطة بكل جوانب التقدم الإنساني، ومهما قيل إن هناك مجالاً واسعًا لتحسينه، وزيادة حظِّه، والدقة فيه - فسيظل هذا المؤشر خطرًا من حيث إنه يمكن أن يستخدم لإخفاء أشياء مهمة، وتضخيم أشياء أقل أهمية.
- مقياس التنمية الإنسانية: وجاء به "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002"؛ ليزيد الطين بِلَّة، احتفظ التقرير بمؤشري العمر المتوقع عند الميلاد، ومستوى التعليم، وأضاف إليهما أربعة مؤشرات جديدة، هي: الحرية، ومركز المرأة (أو ما أسماه: تمكين النوع)، ودرجة الاتصال بشبكة الإنترنت، ودرجة نظافة وتلوث البيئة، فأصبحت المؤشرات ستةً بعد أن كانت ثلاثة، ولكن المهم أن نلاحظ أنه استبعد تمامًا ذلك المؤشر القديم والمشهور، وهو متوسط الدخل.
نعم، كنا نعرف أن هذا المؤشر قاصر عن الإحاطة بكل جوانب الرفاهية، كما هو بالنسبة لبعض دول الخليج؛ كقطر مثلاً (متوسط الدخل الفردي 15140 دولار عام 1994)، ولكن علاج هذا القصور هو باستكمال النقص، فما معنى القول: إن الحرية هي الوسيلة الأساس لتمكين البشر؟ وما قيمة الحرية إذا لم تقترن بالحصول على الدخل؟![4].
على ضوء هذه المؤشرات المزيفة التي تحاول إيهام البلدان المتخلفة أنها على الدرب؛ وذلك بإقصاء مقاييس أكثر أهمية مثل التصنيع، خاصة وأن البلدان المتخلفة تركز على أنشطة صناعية، يمكن تسميتها هامشية، لا يمكن أن تشكل ثورة كوبرنيكية، وطفرة نوعية للحاق بالدول المتقدمة، على حد قول الشاعر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يُزْرِي بِهِ الفَتَى إِذَا قَالَ هَذَا السَّيْفُ أَمْضَى مِنَ العَصَا |
وعلى أي حال، فإنه من الأفضل - على المستوى الاقتصادي - الإبقاء على تعبير "المتخلفة"، وليس النامية؛ فإن التعبير الأخير يخلق انطباعًا بأن كافة بلدان إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية تفلت من حالة تخلف اقتصادي، وتنضمُّ إلى أمم العالم الصناعية، وأنها تحرر ذاتها من علاقة الاستغلال؛ بل هناك بلدان "متخلفة" في إفريقيا تتحول إلى بلدان أكثر تخلفًا، بالمقارنة بالقوى العظمى في العالم.
إن الاقتصادياتِ المتقدمةَ تتسم بسمات معينة، تتناقض مع خصائص الاقتصاديات "المتخلفة"؛ فجميع البلدان المتقدمة بلاد صناعية، وتتميز هذه البلدان بإنتاجية مرتفعة للفرد في الصناعة؛ نظرًا للتكنولوجيا والمهارة المتطورتين، ولكن من المدهش أيضًا أن الزراعة في البلدان المتقدمة أكثر تقدمًا منها في بقية أنحاء العالم.
وقد تحولت الزراعة فيها إلى صناعية بالفعل، وإن بلدان إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تسمى زراعية؛ لأنها تعتمد على الزراعة، وليس لديها إلا قليل من الصناعة، لكن زراعتها غير علمية، وإنتاجيتها أقل من إنتاجية البلدان المتقدمة[5].
لذا؛ فتناول إشكالية التنمية يتطلب إجراءَ عملية تحليل معمقة للفروض والمسلَّمات من ناحية، والنتائج والغايات من ناحية أخرى، وما بينهما من علاقات تربط المنطلقات بالغايات، وتجعلها متسقة أو منسجمة، بحيث لا تكون عملية النهوض حركة عشوائية، أو استجابة وقتية لمتطلبات واقعية، أو رد فعل لبيئة دولية أو إقليمية، وأن تكون عملية متواصلة في تحقيق تجلي الذات الإنسانية في مكانها الحضاري، وفي زمانها القادم.
2- المدارس الجغرافية الكبرى وإشكالية التخلف:
منذ أن ظهر الإنسان على وجه البسيطة وهو
يسعى جاهدًا لاستغلال موارد بيئته، أو بالأحرى إشباع حاجاته الأساسية في
مرحلة، والكمالية في مرحلة تالية، والمتتبع لصيرورة هذه العلاقة الجدلية
بين الإنسان وبيئته على المدى الزمني "التطور التاريخي"، وعلى المدى
الأفقي: "اختلاف البيئات وتباينها من منطقة لأخرى" - يجد أنها علاقة
ديناميكية متباينة، يحكمها بالدرجة الأولى طبيعةُ البيئة من جهة، وقدرات
وإمكانات الإنسان من جهة أخرى.
وقد استحوذت محاولة تفسير هذه العلاقة على اهتمام الاقتصاديين والجغرافيين - خاصةً الغربيين - لمحاولة تبرير ظاهرة التخلف من منطلقات طبيعية وبشرية - ديموغرافية:
وقد استحوذت محاولة تفسير هذه العلاقة على اهتمام الاقتصاديين والجغرافيين - خاصةً الغربيين - لمحاولة تبرير ظاهرة التخلف من منطلقات طبيعية وبشرية - ديموغرافية:
أ- المدرسة الحتمية (الجغرافية الطبيعية):
ويطلق عليها المدرسة البيئية، وقد أرسى قواعدَها الألمانيُّ "فريدريك
راتزل" في أواخر القرن 19، ويرى أن للبيئة أثرًا كبيرًا في حياة الإنسان،
فهو يخضع لسلطانها، وتتحدد نظم حياته الاجتماعية والاقتصادية وَفْقَ ما
تمليه عليه ظروفُها، وكان من أنصار هذه المدرسة خارج ألمانيا "دومولين" في
فرنسا، الذي يرى أن البيئة الجغرافية هي التي تشكل المجتمع، وأن اختلاف
البيئات كان السببَ في اختلاف الأنماط الاجتماعية والاقتصادية، وذهب في
تطرُّفه حدًّا بعيدًا، أنكر فيه على الإنسان ما أوتي من عقلٍ، وتفكير،
وعلم، وقدرةٍ تمكِّنه من الاستفادة من بيئته بطريقة معينة، أو التحلل من
سيطرتها.
من هذا المنطلق تركز هذه المدرسة - في مجال العلاقة بين الإنسان وبيئته - على البيئة الطبيعية، وتؤمن أن الإنسان في هذه الحالة مسيرٌ وليس مخيَّرًا، وبالتالي فالتقدم أو التخلف الذي يعرفه مجتمع معين راجعٌ - حسب زعم هذه المدرسة - إلى الظروف البيئية والطبيعية، وهي في الحقيقة دعوة قديمة قِدَمَ الفكر الجغرافي، ومن روادها الأقدمين نذكر كلاًّ من هيبوقراط وأرسطو، اللذين ربطا بين المناخ وطبائع الشعوب، وتفكيرهم وعاداتهم.
فعلى سبيل المثال: وصف أرسطو سكان شمال أوروبا بأنهم شجعان، ويمتازون بالجرأة، إلا أنهم يفتقرون إلى المهارات والخبرات، بينما امتاز الآسيويون بالمهارة والخبرة، إلا أنهم تنقصهم الشجاعة، هذا، بينما امتاز الإغريق بالجرأة والشجاعة من ناحية، والمعرفة الواسعة من ناحية أخرى[6].
وظهر نفس الاتجاه الحتمي الطبيعي في "مقدمة ابن خلدون" في العصور الوسطى، الذي ربط بين المناخ وطبائع الناس؛ فقد وصف مثلاً أهل المناطق الحارة بالخفة، والطيش، والتأخُّر، بينما وصف أهل حوض البحر المتوسط بالجرأة، والشجاعة، والمعرفة.
يقول ابن خلدون في "المقدمة الرابعة"، في أثر الهواء في أخلاق البشر: "قد رأينا من خُلق السودان على العموم: الخفةَ، والطيش، وكثرة الطرب، وتجدهم مولعين بالرقص، موصوفين بالحمق في كل قطر، وكذلك يلحق بهم قليلاً أهلُ البلاد البحرية؛ لما كان هواؤها متضاعفَ الحرارة، بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة[7].
كما ظهر الاهتمام بتأثير البيئة على الإنسان في أوروبا في عصر النهضة، وخاصة بعد الاكتشافات الجغرافية، التي أدَّت إلى توسيع دائرة المعرفة بالعالم، "ولعل أغرب شاهد على أهمية المناخ ما ذهب إليه بعض المؤرخين، في استعمال المعطيات المناخية لتفسير ظاهرة تاريخية معينة، حتى إن البعض منهم حاول ربط فترات الازدهار (كالنهضة الأوروبية مثلاً) باعتدال المناخ، وفترات الأزمة بجفافه.
ويعتبر المؤرخ الفرنسي إيمانويل لوروا لادوري أكثر هؤلاء اهتمامًا بهذا الاتجاه، ومن أشهر كتاباته: [8]""
ولعل أشد غرابةً ما ذهب إليه لورانس هارسن في كتابه "من يزدهر"، يقول: "إن أغلب سكان المناطق الحارة (ويقصد بلدان العالم الثالث) تقلُّ لديهم قيمة حب العمل، ويسود الكسل؛ نتيجة رغبة الأفراد في الهروب من الشمس الحارقة؛ سعيًا للاسترخاء في المناطق الظليلة، وهو دافع بيولوجي يساهم المناخ فيه؛ مما يؤدي إلى اتساع الشعيرات الدموية للأفراد؛ مما يجعلهم عرضة للإجهاد والإرهاق نتيجة أقل مجهود يبذلونه، وهو ما يتحول تدريجيًّا إلى ثقافة اجتماعية، تفضل العمل في المكاتب المكيفة مثلاً على العمل اليدوي في العراء".
وهذا الاتجاه: كان الأستاذ وول ديورانت قد طرح هذا التفسير في كتابه "قصة الحضارة"، حيث يقول: "والحضارة مشروطة بطائفة من العوامل هي التي تستحثُّ خطاها، وتعوق مسارها، أولها: العوامل الجيولوجية، وثانيها: العوامل الجغرافية؛ فحرارة الأقطار الاستوائية، وما يجتاح تلك الأقطارَ من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكر، وإحلال مبكر، من شأنه أن يصرف المجهود عن كماليات الحياة، التي هي قوام المدنية".
هذه النظرية المناخية التي وظفها الاستعمار؛ حتى تغفر جميع خطاياهم بمجرد الادعاء بأن المناطق الاستوائية ترخي وتميع الإنسان، بينما ظروف الشمال القاسية تربِّي في الإنسان إرادة العمل، ومن هنا يستنتج كل امرئ ويدرك لماذا يغتني "الشماليون"، بينما يعيش "الجنوبيون" في ضنك من العيش وفقر؟![9].
وهذا الطرح لا يبرره الوضع الجغرافي، حيث هناك مناطق توجد في الشمال، ولكن لا تزال تقبع في مختلف مظاهر التخلف، مثل: ألبانيا، وبعض المناطق في إسبانيا، وجنوب إيطاليا، والبوسنة، والقائمة طويلة، ومن جهة أخرى هناك مناطق توجد في الجنوب، ولكن تنتمي إلى مجموعة بلدان الشمال، مثل نيوزيلندا.
من هذا نرى أن أصحاب المدرسة الحتمية، قد غالَوا غلوًّا شديدًا في فكرهم، عندما أخضعوا كل شيء للبيئة الطبيعية، وتجاهلوا قدرات الإنسان وإبداعاته، وهذا ما سنراه في الاتجاه الذي تمثله المدرسة الإمكانية.
ب- المدرسة الإمكانية: وتتلخص فلسفة المدرسة الإمكانية في "أن الإنسان ليس مجرد مخلوق سلبي، غير مفكر، خاضع تمامًا لمؤثرات وضوابط البيئة؛ ولكنه قوة إيجابية فعالة ومفكرة، وذو خاصية ديناميكية قادرة على التغيير والتطوير".
ومن رواد هذا الفكر الإمكاني الجغرافي - وهم في غالبيتهم أصحاب مدرسة الحوليات في الفكر التاريخي، الذين يتزعمهم بروديل -: الفرنسي فيدال دولا بلاش "أبو الإمكانية"، وإسحاق بومان، وكارل سور، وفلير.
وقد جاءت هذه المدرسة الإمكانية - التي حاولت أن تنكأ الجراح التي أثخنتها المدرسة الحتمية - من خلال التركيز على دور الإنسان وفاعليته، وفعاليته ودوره الإيجابي في تغيير منظومة الحياة.
ويتساءل الإمكانيون: هل يتجاهل الحتميون هذا الإبداع البشري، الذي تظهر بصماته واضحة في التفوق والإبداع الصناعي، وإقامة السدود الضخمة، والأنفاق الهائلة، والتطور الذي مسَّ استنباط السلالات النباتية والحيوانية، وغيرها من مظاهر تفوق وتعاظم القدرة البشرية؟ هل مع هذا الإبداع يصرُّ البعض أن الإنسان مكبَّل بأغلالِ وأصفادِ الطبيعة؟
من خلال استقراء واقع العالم خلال فترات تاريخية، يتبيَّن مدى الخلل والخور، وزيف هذا الادعاء الذي سقطت فيه المدرسة الحتمية، من خلال الإطلالة على بعض الحضارات البائدة في مناطق الشرق الأقصى والأدنى، التي تنتمي في غالبيتها إلى النطاق الصحراوي:
من هذا المنطلق تركز هذه المدرسة - في مجال العلاقة بين الإنسان وبيئته - على البيئة الطبيعية، وتؤمن أن الإنسان في هذه الحالة مسيرٌ وليس مخيَّرًا، وبالتالي فالتقدم أو التخلف الذي يعرفه مجتمع معين راجعٌ - حسب زعم هذه المدرسة - إلى الظروف البيئية والطبيعية، وهي في الحقيقة دعوة قديمة قِدَمَ الفكر الجغرافي، ومن روادها الأقدمين نذكر كلاًّ من هيبوقراط وأرسطو، اللذين ربطا بين المناخ وطبائع الشعوب، وتفكيرهم وعاداتهم.
فعلى سبيل المثال: وصف أرسطو سكان شمال أوروبا بأنهم شجعان، ويمتازون بالجرأة، إلا أنهم يفتقرون إلى المهارات والخبرات، بينما امتاز الآسيويون بالمهارة والخبرة، إلا أنهم تنقصهم الشجاعة، هذا، بينما امتاز الإغريق بالجرأة والشجاعة من ناحية، والمعرفة الواسعة من ناحية أخرى[6].
وظهر نفس الاتجاه الحتمي الطبيعي في "مقدمة ابن خلدون" في العصور الوسطى، الذي ربط بين المناخ وطبائع الناس؛ فقد وصف مثلاً أهل المناطق الحارة بالخفة، والطيش، والتأخُّر، بينما وصف أهل حوض البحر المتوسط بالجرأة، والشجاعة، والمعرفة.
يقول ابن خلدون في "المقدمة الرابعة"، في أثر الهواء في أخلاق البشر: "قد رأينا من خُلق السودان على العموم: الخفةَ، والطيش، وكثرة الطرب، وتجدهم مولعين بالرقص، موصوفين بالحمق في كل قطر، وكذلك يلحق بهم قليلاً أهلُ البلاد البحرية؛ لما كان هواؤها متضاعفَ الحرارة، بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة[7].
كما ظهر الاهتمام بتأثير البيئة على الإنسان في أوروبا في عصر النهضة، وخاصة بعد الاكتشافات الجغرافية، التي أدَّت إلى توسيع دائرة المعرفة بالعالم، "ولعل أغرب شاهد على أهمية المناخ ما ذهب إليه بعض المؤرخين، في استعمال المعطيات المناخية لتفسير ظاهرة تاريخية معينة، حتى إن البعض منهم حاول ربط فترات الازدهار (كالنهضة الأوروبية مثلاً) باعتدال المناخ، وفترات الأزمة بجفافه.
ويعتبر المؤرخ الفرنسي إيمانويل لوروا لادوري أكثر هؤلاء اهتمامًا بهذا الاتجاه، ومن أشهر كتاباته: [8]""
ولعل أشد غرابةً ما ذهب إليه لورانس هارسن في كتابه "من يزدهر"، يقول: "إن أغلب سكان المناطق الحارة (ويقصد بلدان العالم الثالث) تقلُّ لديهم قيمة حب العمل، ويسود الكسل؛ نتيجة رغبة الأفراد في الهروب من الشمس الحارقة؛ سعيًا للاسترخاء في المناطق الظليلة، وهو دافع بيولوجي يساهم المناخ فيه؛ مما يؤدي إلى اتساع الشعيرات الدموية للأفراد؛ مما يجعلهم عرضة للإجهاد والإرهاق نتيجة أقل مجهود يبذلونه، وهو ما يتحول تدريجيًّا إلى ثقافة اجتماعية، تفضل العمل في المكاتب المكيفة مثلاً على العمل اليدوي في العراء".
وهذا الاتجاه: كان الأستاذ وول ديورانت قد طرح هذا التفسير في كتابه "قصة الحضارة"، حيث يقول: "والحضارة مشروطة بطائفة من العوامل هي التي تستحثُّ خطاها، وتعوق مسارها، أولها: العوامل الجيولوجية، وثانيها: العوامل الجغرافية؛ فحرارة الأقطار الاستوائية، وما يجتاح تلك الأقطارَ من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكر، وإحلال مبكر، من شأنه أن يصرف المجهود عن كماليات الحياة، التي هي قوام المدنية".
هذه النظرية المناخية التي وظفها الاستعمار؛ حتى تغفر جميع خطاياهم بمجرد الادعاء بأن المناطق الاستوائية ترخي وتميع الإنسان، بينما ظروف الشمال القاسية تربِّي في الإنسان إرادة العمل، ومن هنا يستنتج كل امرئ ويدرك لماذا يغتني "الشماليون"، بينما يعيش "الجنوبيون" في ضنك من العيش وفقر؟![9].
وهذا الطرح لا يبرره الوضع الجغرافي، حيث هناك مناطق توجد في الشمال، ولكن لا تزال تقبع في مختلف مظاهر التخلف، مثل: ألبانيا، وبعض المناطق في إسبانيا، وجنوب إيطاليا، والبوسنة، والقائمة طويلة، ومن جهة أخرى هناك مناطق توجد في الجنوب، ولكن تنتمي إلى مجموعة بلدان الشمال، مثل نيوزيلندا.
من هذا نرى أن أصحاب المدرسة الحتمية، قد غالَوا غلوًّا شديدًا في فكرهم، عندما أخضعوا كل شيء للبيئة الطبيعية، وتجاهلوا قدرات الإنسان وإبداعاته، وهذا ما سنراه في الاتجاه الذي تمثله المدرسة الإمكانية.
ب- المدرسة الإمكانية: وتتلخص فلسفة المدرسة الإمكانية في "أن الإنسان ليس مجرد مخلوق سلبي، غير مفكر، خاضع تمامًا لمؤثرات وضوابط البيئة؛ ولكنه قوة إيجابية فعالة ومفكرة، وذو خاصية ديناميكية قادرة على التغيير والتطوير".
ومن رواد هذا الفكر الإمكاني الجغرافي - وهم في غالبيتهم أصحاب مدرسة الحوليات في الفكر التاريخي، الذين يتزعمهم بروديل -: الفرنسي فيدال دولا بلاش "أبو الإمكانية"، وإسحاق بومان، وكارل سور، وفلير.
وقد جاءت هذه المدرسة الإمكانية - التي حاولت أن تنكأ الجراح التي أثخنتها المدرسة الحتمية - من خلال التركيز على دور الإنسان وفاعليته، وفعاليته ودوره الإيجابي في تغيير منظومة الحياة.
ويتساءل الإمكانيون: هل يتجاهل الحتميون هذا الإبداع البشري، الذي تظهر بصماته واضحة في التفوق والإبداع الصناعي، وإقامة السدود الضخمة، والأنفاق الهائلة، والتطور الذي مسَّ استنباط السلالات النباتية والحيوانية، وغيرها من مظاهر تفوق وتعاظم القدرة البشرية؟ هل مع هذا الإبداع يصرُّ البعض أن الإنسان مكبَّل بأغلالِ وأصفادِ الطبيعة؟
من خلال استقراء واقع العالم خلال فترات تاريخية، يتبيَّن مدى الخلل والخور، وزيف هذا الادعاء الذي سقطت فيه المدرسة الحتمية، من خلال الإطلالة على بعض الحضارات البائدة في مناطق الشرق الأقصى والأدنى، التي تنتمي في غالبيتها إلى النطاق الصحراوي:
- الحضارة المصرية:
بَنَوا أهرامات شاهقة، التي هي قِبْلة للسياح الغربيين، وهم الذين ارتقوا
بالكتابة من التصويرية والرمزية، إلى كتابة خاصة بهم، وهي الكتابة
الهيروغليفية، كما ابتكروا بعض الأنشطة الهيدروغرافية.
- الحضارة السومرية: وقد اخترعوا الكتابة المسمارية حوالي 3600 ق. م، وأنشؤوا أول المدارس والمكتبات، وكذلك ابتكروا أول أنظمة الري، وأول من استخدم الذهب والفضة في تقويم السلع[10].
- الحضارة الإسلامية: التي بلغت أوج عزِّها وعظمتها في العصور الوسطى، في وقت كانت أوروبا غارقة في ظلمات الجهل والتخلف.
في نفس السياق، كيف نفسِّر التقدم الذي عرفته الأراضي المنخفضة في الإنتاج الزراعي، برغم افتقارها إلى المجالات الزراعية؟ وذلك باتِّباعها ما يسمى بالرقات أو البولديرات (وهي مجالات أو أراضٍ مكتسبة على حساب البحر، عن طريق التجفيف، أو غمرها بالأتربة).
من جهة أخرى، كيف نفسر أيضًا التقدم الذي تعرفه اليابان - وقد عانت من التخلف الاقتصادي شأنها شأن البلدان العربية والإسلامية - برغم افتقارها إلى الثروات الطبيعية (البترول والغاز الطبيعي)، الذي تستورد غالبيتها من بلدان الخليج؟ يجيب أحد اليابانيين: "تعيش البلدان على ثروات تحت أقدامها، أما نحن، فنعيش على ثروات فوق أكتافنا، تزيد بقدر ما نأخذ منها".
والموضوع بحاجة إلى مزيد من الوقوف عنده؛ فالفكرة - في اعتقادي - لم توضع لتفسير نشوء حضارة الغرب، بقدر ما وُضعت لإقناع غيرهم بعدم جدوى عملية التنمية والالتحاق بالدول المتقدمة، ومن هنا تأتي خطورة هذا التفسير في تثبيط همم بقية شعوب الأرض، وإقناعهم بالصبر والرضا على ما هم فيه من أشكال التخلف، وانتظار مَن يجود عليه بلقيمات تهوِّن عليهم وطأة الجوع، ومرارة القهقرية والنكوصية.
مثال آخر: فمنطقة ألاسكا، وكندا، والولايات المتحدة، ومنطقة أمريكا اللاتينية (الأرجنتين والبرازيل)، بالرغم من وجود سكانهما الأصليين منذ آلاف السنين فيهما، لم تنهضا إلا بعد هجرة الأوروبيين إليها في إطار حركة الاستكشافات الجغرافية الأوروبية، وازدادت تفوقًا أكثر مع هجرة غالبية علماء البلدان العربية وعلماء آسيا إليها، في إطار ما يسمى هجرة الأدمغة.
في هذا السياق أيضًا، هناك مشكلة كبرى تطرح نفسها بقوة؛ تتمثل في الانفجار الديموغرافي الذي ضخمته الدول المتقدمة؛ لتبرير تخلف العالم الثالث، لكن هذه المدرسة لم تبقَ مكتوفةَ الأيدي وأشارت إلى دور العنصر البشري في عملية التنمية؛ ومن روادها ألبرت هيرشمان، وكلارك، وبوسرب، الذين يرون أنه من الخطأ اعتبار الزيادة المطردة في السكان بالنسبة إلى الدول عائقًا للعملية التنموية؛ بل يرون أن هذه الزيادة تعمل على إيجاد قوة ضاغطة، تؤدي إلى مضاعفة الجهد من قِبل السكان أنفسهم؛ لتحسين مستوياتهم المعيشية؛ مما يسرع العملية التنموية.
* يعتبر الاقتصادي الأسترالي كولين كلارك من الأوائل الذين لاحظوا أن المعطياتِ الواقعيةَ والميدانية لا تؤكِّد أطروحة العلاقة السلبية بين النمو الديموغرافي والنمو الاقتصادي، ويرى أن العلاقة بين ارتفاع الدخل الفردي والزيادة في عدد السكان علاقةٌ إيجابية.
* أما جوليان سيمون، فقد عدَّد مجموعة من الأدلة لصالح النمو الديموغرافي، الذي يرى فيه عملاً قويًّا يساعد في حل المشكلات الإنسانية، فهو يرى أن إبداع الإنسان يمثل المورد الوحيد الذي يمكنه أن يحلَّ ويحدَّ من مشكلة ندرة الموارد الأخرى.
* ففي سنة 1986، موَّلت الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية دراسةً حول السكان والتنمية، وقامت بتحليل سلسة من التصريحات حول الآثار السلبية للنمو الديموغرافي، فوجدت أنه على العموم ليست هناك أدلة واقعية تسندها.
ويزكي هذا الطرحَ ما ذهب إليه المفكر المغربي المهدي المنجرة، من أن موقف الغرب تحكمه ثلاثة مخاوف رئيسة:
- الحضارة السومرية: وقد اخترعوا الكتابة المسمارية حوالي 3600 ق. م، وأنشؤوا أول المدارس والمكتبات، وكذلك ابتكروا أول أنظمة الري، وأول من استخدم الذهب والفضة في تقويم السلع[10].
- الحضارة الإسلامية: التي بلغت أوج عزِّها وعظمتها في العصور الوسطى، في وقت كانت أوروبا غارقة في ظلمات الجهل والتخلف.
في نفس السياق، كيف نفسِّر التقدم الذي عرفته الأراضي المنخفضة في الإنتاج الزراعي، برغم افتقارها إلى المجالات الزراعية؟ وذلك باتِّباعها ما يسمى بالرقات أو البولديرات (وهي مجالات أو أراضٍ مكتسبة على حساب البحر، عن طريق التجفيف، أو غمرها بالأتربة).
من جهة أخرى، كيف نفسر أيضًا التقدم الذي تعرفه اليابان - وقد عانت من التخلف الاقتصادي شأنها شأن البلدان العربية والإسلامية - برغم افتقارها إلى الثروات الطبيعية (البترول والغاز الطبيعي)، الذي تستورد غالبيتها من بلدان الخليج؟ يجيب أحد اليابانيين: "تعيش البلدان على ثروات تحت أقدامها، أما نحن، فنعيش على ثروات فوق أكتافنا، تزيد بقدر ما نأخذ منها".
والموضوع بحاجة إلى مزيد من الوقوف عنده؛ فالفكرة - في اعتقادي - لم توضع لتفسير نشوء حضارة الغرب، بقدر ما وُضعت لإقناع غيرهم بعدم جدوى عملية التنمية والالتحاق بالدول المتقدمة، ومن هنا تأتي خطورة هذا التفسير في تثبيط همم بقية شعوب الأرض، وإقناعهم بالصبر والرضا على ما هم فيه من أشكال التخلف، وانتظار مَن يجود عليه بلقيمات تهوِّن عليهم وطأة الجوع، ومرارة القهقرية والنكوصية.
مثال آخر: فمنطقة ألاسكا، وكندا، والولايات المتحدة، ومنطقة أمريكا اللاتينية (الأرجنتين والبرازيل)، بالرغم من وجود سكانهما الأصليين منذ آلاف السنين فيهما، لم تنهضا إلا بعد هجرة الأوروبيين إليها في إطار حركة الاستكشافات الجغرافية الأوروبية، وازدادت تفوقًا أكثر مع هجرة غالبية علماء البلدان العربية وعلماء آسيا إليها، في إطار ما يسمى هجرة الأدمغة.
في هذا السياق أيضًا، هناك مشكلة كبرى تطرح نفسها بقوة؛ تتمثل في الانفجار الديموغرافي الذي ضخمته الدول المتقدمة؛ لتبرير تخلف العالم الثالث، لكن هذه المدرسة لم تبقَ مكتوفةَ الأيدي وأشارت إلى دور العنصر البشري في عملية التنمية؛ ومن روادها ألبرت هيرشمان، وكلارك، وبوسرب، الذين يرون أنه من الخطأ اعتبار الزيادة المطردة في السكان بالنسبة إلى الدول عائقًا للعملية التنموية؛ بل يرون أن هذه الزيادة تعمل على إيجاد قوة ضاغطة، تؤدي إلى مضاعفة الجهد من قِبل السكان أنفسهم؛ لتحسين مستوياتهم المعيشية؛ مما يسرع العملية التنموية.
* يعتبر الاقتصادي الأسترالي كولين كلارك من الأوائل الذين لاحظوا أن المعطياتِ الواقعيةَ والميدانية لا تؤكِّد أطروحة العلاقة السلبية بين النمو الديموغرافي والنمو الاقتصادي، ويرى أن العلاقة بين ارتفاع الدخل الفردي والزيادة في عدد السكان علاقةٌ إيجابية.
* أما جوليان سيمون، فقد عدَّد مجموعة من الأدلة لصالح النمو الديموغرافي، الذي يرى فيه عملاً قويًّا يساعد في حل المشكلات الإنسانية، فهو يرى أن إبداع الإنسان يمثل المورد الوحيد الذي يمكنه أن يحلَّ ويحدَّ من مشكلة ندرة الموارد الأخرى.
* ففي سنة 1986، موَّلت الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية دراسةً حول السكان والتنمية، وقامت بتحليل سلسة من التصريحات حول الآثار السلبية للنمو الديموغرافي، فوجدت أنه على العموم ليست هناك أدلة واقعية تسندها.
ويزكي هذا الطرحَ ما ذهب إليه المفكر المغربي المهدي المنجرة، من أن موقف الغرب تحكمه ثلاثة مخاوف رئيسة:
- أولاً: الخوف الديموغرافي؛ لأن وزنه البشري داخل العالم أصبح يتراجع سنةً بعد سنة.
- ثانيًا: الخوف من العرب والإسلام، ولو أن وزن العرب بالنسبة للمسلمين لا يمثل حتى عشرين في المائة، فالعرب جميعًا، يقلُّون عن تعداد بلد مسلم واحد، هو إندونيسيا.
- ثالثًا: الخوف من اليابان؛ لأسباب حضارية، فالغرب لا يقبل ما برهنت عليه التجربة اليابانية والماليزية، وهو أن الحداثة والتقدم يمكنها أن تتبلور بواسطة قيم أخرى غير القيم اليهودية والنصرانية الغربية، وهذا يعاكس ما يذهب إليه بعض المثقفين في بلداننا من أن وسيلة تقدمنا هي تقليد الغرب، والسير على نهج الغرب، وليس انطلاقًا من قِيَمنا[11].
من هنا ندرك حقيقة مفهوم التنمية - في مقابل التخلف – أنه عملية توالد ذاتي، وحركة جوانية، لا تتم بمؤثر خارجي، الذي أصبح لا يعكس مقاصد التنمية؛ بل ويعمل ضدها، والدليل على ذلك فشل العديد من الخطط والبرامج التنموية، فالنهضة لا تتحقق باجترار القديم، ولا الانقطاع عنه، وإنما هي عمليات متوالية ومتتالية، وتجليات مختلفة لذات واحدة، صقلت - ولم تزل تصقل - من خلال تجربة حضارية ممتدة في الزمان والمكان، متفاعلة مع المحيط الجغرافي والتاريخي، تفاعلاً يؤدي إلى توسيع محيطها، دون أن يغيِّر موضع مركزها وقطبها.
3- وجهة نظر: مساهمة أبستمولوجية:
- ثانيًا: الخوف من العرب والإسلام، ولو أن وزن العرب بالنسبة للمسلمين لا يمثل حتى عشرين في المائة، فالعرب جميعًا، يقلُّون عن تعداد بلد مسلم واحد، هو إندونيسيا.
- ثالثًا: الخوف من اليابان؛ لأسباب حضارية، فالغرب لا يقبل ما برهنت عليه التجربة اليابانية والماليزية، وهو أن الحداثة والتقدم يمكنها أن تتبلور بواسطة قيم أخرى غير القيم اليهودية والنصرانية الغربية، وهذا يعاكس ما يذهب إليه بعض المثقفين في بلداننا من أن وسيلة تقدمنا هي تقليد الغرب، والسير على نهج الغرب، وليس انطلاقًا من قِيَمنا[11].
من هنا ندرك حقيقة مفهوم التنمية - في مقابل التخلف – أنه عملية توالد ذاتي، وحركة جوانية، لا تتم بمؤثر خارجي، الذي أصبح لا يعكس مقاصد التنمية؛ بل ويعمل ضدها، والدليل على ذلك فشل العديد من الخطط والبرامج التنموية، فالنهضة لا تتحقق باجترار القديم، ولا الانقطاع عنه، وإنما هي عمليات متوالية ومتتالية، وتجليات مختلفة لذات واحدة، صقلت - ولم تزل تصقل - من خلال تجربة حضارية ممتدة في الزمان والمكان، متفاعلة مع المحيط الجغرافي والتاريخي، تفاعلاً يؤدي إلى توسيع محيطها، دون أن يغيِّر موضع مركزها وقطبها.
3- وجهة نظر: مساهمة أبستمولوجية:
من خلال المتابعة والاستقراء للواقع
الحالي، ندرك أن التخلف ظاهرة معقدة، تتشابك فيها عواملُ تاريخيةٌ،
واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ولكن مظاهرها تظل جلية في المشاكل الداخلية
التي تعوق التنمية في مجتمعات العالم الثالث، يمكن الإشارة إلى بعضها:
- التخلف التقني، وتخلف فن الإدارة، وضعف
إنتاجية العاملين في القطاعات الإدارية والإنتاجية العامة، وسوء تخطيط
الاستثمارات العامة والخاصة.
- سوء توزيع الدخل الفردي، ووجود جماعات "طفيلية" تستحوذ على جزء مهم من هذا الدخل، دون أن يتناسب هذا مع مشاركتها الفعلية في العملية الإنتاجية.
- عدم الاستفادة من الكفاءات العلمية، التي امتدت مساحتها، والتي أصبحت ثمرة يانعة يسهل قطفها من قِبل الدول الغربية.
- غياب حرية الإبداع والإرادة المشتركة.
- غياب العدل وتكافؤ الفرص، وانتشار الأمراض الاجتماعية، وخاصةً الرِّشْوةَ، ذلك الوباء الفتاك الذي باض وفقس وفرخ؛ ليمتد بمخالبه في جميع أوصال البلدان المتخلفة، يتحدث جون بودان عن الإمبراطورية العثمانية في أوج عزِّها وعظمتها، بكلمات براقة ورقراقة، والأولى أن تكتب بماء الذهب يقول: "إنه بالجدارة وحدها يرتقي الإنسان في سلك الخدمة، إنه نظام يؤكد أن المناصب لا تُشغَل إلا بالكفاءة وحدها، إن أولئك الذين عينهم في المناصب الكبرى هم في غالبيتهم أبناء رعاة أو أصحاب ماشية، إن هذا هو السبب في نجاحهم وتفوقهم على الآخرين، وهذا هو السبب في أنهم – أي: العثمانيين - يوسعون إمبراطوريتهم يوميًّا، إن هذه ليست أفكارنا، ففي بلادنا (أوروبا) ليس الطريق مفتوحًا للكفاءة، إن النَّسَب هو المفتاح الوحيد للترقي في مدارج الخدمة العامة"[12].
- انتشار الأمية بأطيافها المختلفة (الأبجدية، والوظيفية، والحضارية)، وانتشار الفقر، حيث تُظهِر الإحصائيات أن غالبية فئات السكان تعيش في معظم بلدان العالم الثالث تحت عتبة الفقر المتعارف عليه دوليًّا.
- عدم وجود الحوافز المادية للمشتغلين بالبحث العلمي والتقني في مختلف دول العالم الثالث.
- الاهتمام بمناقشات هامشية تنسي القضايا الأساسية، كالجدال البيزنطي الذي جرى بين علماء النصارى حول ناسوت عيسى - عليه السلام - أو لاهوته، في وقت كانت جيوش العثمانيين تدكُّ حصون مدينتهم.
وهذا غيضٌ من فيض.
أما المُثبِّطات الخارجية التي تؤثر على أساليب التنمية والتقدم، فتتجلى - مع الأسف - في موقف حكومات الدول الصناعية، الذي كان سلبيًّا في مواجهة الدعوة الجديدة، التي انتشرت مع ذلك انتشارًا كبيرًا بين مثقفي شعوب العالم الثالث، واكتسبت - حتى داخل الدول الصناعية - كثيرًا من الأنصار، فحكومات الدول الصناعية ليست بعدُ على استعداد لقبول توزيع حقيقي للقوة الاقتصادية على النطاق الدولي، ويتأكد الاتجاه السلبي للدول الصناعية من موقفها في التصويت على اعتبار الحق في التنمية حقًّا إنسانيًّا في لجنة حقوق الإنسان، والجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث درجت الولايات المتحدة الأمريكية على التصويت بالرفض، بينما اكتفت الدول الأوربية بالامتناع عن التصويت.
بعبارة موجزة: الأمم تقاس بمدى ما حققته من إنجازات ملموسة على أرض الواقع، وليس بالشعارات، وإن عظمت بين نظيراتها من أدبيات التنظير المختلفة، ولكن على الرغم من هذه الصورة القاتمة لأوضاع العالم الثالث (العالم العربي والإسلامي) الراهنة، فإننا لا يجوز بأي حال أن نركن ونستسلم لليأس، أو نظل جامدين نندب حظَّنا العاثرَ، ونعتقد أن هذا هو قدرنا المحتوم.
إن الأمر ينبغي أن يكون على العكس من ذلك، فالنظرة التشاؤمية السوداوية تزيد من ركودنا، وتضعف من إرادتنا، وتقلل من طاقتنا، وتحد من انطلاقنا.
- سوء توزيع الدخل الفردي، ووجود جماعات "طفيلية" تستحوذ على جزء مهم من هذا الدخل، دون أن يتناسب هذا مع مشاركتها الفعلية في العملية الإنتاجية.
- عدم الاستفادة من الكفاءات العلمية، التي امتدت مساحتها، والتي أصبحت ثمرة يانعة يسهل قطفها من قِبل الدول الغربية.
- غياب حرية الإبداع والإرادة المشتركة.
- غياب العدل وتكافؤ الفرص، وانتشار الأمراض الاجتماعية، وخاصةً الرِّشْوةَ، ذلك الوباء الفتاك الذي باض وفقس وفرخ؛ ليمتد بمخالبه في جميع أوصال البلدان المتخلفة، يتحدث جون بودان عن الإمبراطورية العثمانية في أوج عزِّها وعظمتها، بكلمات براقة ورقراقة، والأولى أن تكتب بماء الذهب يقول: "إنه بالجدارة وحدها يرتقي الإنسان في سلك الخدمة، إنه نظام يؤكد أن المناصب لا تُشغَل إلا بالكفاءة وحدها، إن أولئك الذين عينهم في المناصب الكبرى هم في غالبيتهم أبناء رعاة أو أصحاب ماشية، إن هذا هو السبب في نجاحهم وتفوقهم على الآخرين، وهذا هو السبب في أنهم – أي: العثمانيين - يوسعون إمبراطوريتهم يوميًّا، إن هذه ليست أفكارنا، ففي بلادنا (أوروبا) ليس الطريق مفتوحًا للكفاءة، إن النَّسَب هو المفتاح الوحيد للترقي في مدارج الخدمة العامة"[12].
- انتشار الأمية بأطيافها المختلفة (الأبجدية، والوظيفية، والحضارية)، وانتشار الفقر، حيث تُظهِر الإحصائيات أن غالبية فئات السكان تعيش في معظم بلدان العالم الثالث تحت عتبة الفقر المتعارف عليه دوليًّا.
- عدم وجود الحوافز المادية للمشتغلين بالبحث العلمي والتقني في مختلف دول العالم الثالث.
- الاهتمام بمناقشات هامشية تنسي القضايا الأساسية، كالجدال البيزنطي الذي جرى بين علماء النصارى حول ناسوت عيسى - عليه السلام - أو لاهوته، في وقت كانت جيوش العثمانيين تدكُّ حصون مدينتهم.
وهذا غيضٌ من فيض.
أما المُثبِّطات الخارجية التي تؤثر على أساليب التنمية والتقدم، فتتجلى - مع الأسف - في موقف حكومات الدول الصناعية، الذي كان سلبيًّا في مواجهة الدعوة الجديدة، التي انتشرت مع ذلك انتشارًا كبيرًا بين مثقفي شعوب العالم الثالث، واكتسبت - حتى داخل الدول الصناعية - كثيرًا من الأنصار، فحكومات الدول الصناعية ليست بعدُ على استعداد لقبول توزيع حقيقي للقوة الاقتصادية على النطاق الدولي، ويتأكد الاتجاه السلبي للدول الصناعية من موقفها في التصويت على اعتبار الحق في التنمية حقًّا إنسانيًّا في لجنة حقوق الإنسان، والجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث درجت الولايات المتحدة الأمريكية على التصويت بالرفض، بينما اكتفت الدول الأوربية بالامتناع عن التصويت.
بعبارة موجزة: الأمم تقاس بمدى ما حققته من إنجازات ملموسة على أرض الواقع، وليس بالشعارات، وإن عظمت بين نظيراتها من أدبيات التنظير المختلفة، ولكن على الرغم من هذه الصورة القاتمة لأوضاع العالم الثالث (العالم العربي والإسلامي) الراهنة، فإننا لا يجوز بأي حال أن نركن ونستسلم لليأس، أو نظل جامدين نندب حظَّنا العاثرَ، ونعتقد أن هذا هو قدرنا المحتوم.
إن الأمر ينبغي أن يكون على العكس من ذلك، فالنظرة التشاؤمية السوداوية تزيد من ركودنا، وتضعف من إرادتنا، وتقلل من طاقتنا، وتحد من انطلاقنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تعددت تعاريف الجغرافيا، ولكن سنعتمد التعريفين التاليين:
- "إن الجغرافيا تدرس الأرض موطنًا
للإنسان، فهي تدرس الأرض، ونعني بها البيئة الطبيعية، ولكن الجغرافيا لا
تدرس هذه العناصر لذاتها دراسة علمية صرفة؛ بل تدرسها من حيث أثرُها في
الإنسان، فهي (أي هذه العناصر) تتحدَّاه، فيستجيب لها باستجابات خاصة؛ أي:
بنشاطات بشرية"؛ صفوح خير، "البحث الجغرافي: مناهجه وأساليبه"، دار المريخ،
المملكة العربية السعودية، 1990، ص52.
- وجاء في "معجم لالاند" المعروف في مادة
"الجغرافيا" ما نصه: "وصف لمختلف مناطق سطح الأرض؛ دراسة، وبقدر الإمكان
تفسير للظواهر الطبيعية والبشرية والاقتصادية في علاقتهما بالمكان، وفيما
بينهما".
.
[2]
د. محمد عبدالمولى: "طبيعة وأسباب التخلف الاقتصادي - الاجتماعي في العالم
الثالث: مفاهيم وقضايا منهجية"، مجلة الوحدة، السنة الثالثة، العدد 25،
أكتوبر 1986، ص36.
[3] د. محمد حافظ دياب: "حاجات البشر: جوع أم إشباع؟"، مجلة العربي، العدد 558، مايو 2005، ص 132.
[4] د. جلال أمين: "كيف ندرك الوجه الإنساني للتنمية؟"، مجلة العربي، العدد530، يناير 2003، ص: 17، 18، بتصرف.
[5] د.
والتر روني: "أوروبا والتخلف في إفريقيا"، ترجمة د. أحمد القصير، سلسة
عالم المعرفة، عدد 132، دجنبر 1988، الكويت، ص: 27 - 31.
[6] محمود محمد سيف: "أسس البحث الجغرافي"، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، الطبعة الأولى 1994، ص28.
[7] ابن خلدون: "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق درويش الجويدي، المكتبة العصرية - صيدا، بيروت، الطبعة الثانية 1996، ص: 83.
[8] د. أحمد بلاوي: "دروس في جغرافية المناخ: 1- عناصر المناخ"، الطبعة الأولى، دار قرطبة للطباعة والنشر، مارس 1986، ص: 6.
[9] د. محمد عبدالمولى: المرجع نفسه، ص: 41.
[10] أحمد محمد شملان: "الإقصاء عن الفعل الحضاري"، مجلة العربي، العدد 565، دجنبر 2005، ص: 163.
[11] المهدي المنجرة: "حوار التواصل"، كتاب الشهر، سلسلة شراع، العدد الأول، مايو 1997، ص84.
[12] بول كولز: "العثمانيون في أوروبا"، ترجمة عبدالرحمن عبدالله الشيخ، الهيئة المصرية العامة، القاهرة، 1993، ص: 158، 159.
تسلم ايديك على الموضوع Räumung
ردحذفRäumung