تغزل به الشعراء،
ووصفت به الجميلات. كان محلا للأساطير القديمة ولم يسلم من الإشاعات
الحديثة، هبط على سطحه الرواد، وحامت حوله الستالايتات، وفي القصص الخيالية
استذأب به البعض حينما اكتمل، واستعمره الناس في المستقبل. استنار به
الرحالة القدماء، وتعبدت بتقويمه به بعض الأديان، وصلى بخسوفه الإنسان. ذكر
نوره في الإنجيل، وسميت سورة بإسمه في القرآن، إنه القمر، الذي لا يمكن
لأحد إنكار جماله، ولا سحر تأثيره. ولكن مع ذلك الغزل والجدل لم يعرفه إلا
القليل، فما هي قصة القمر؟ كيف نشأ؟ وما هي افضل الفرضيات التي تفسر وجوده
حول الأرض؟
في سنة 1879 أو 1898 اقترح جورج هاوارد داروين (George Howard Darwin) الفلكي الرياضي وابن تشالز داروين (Charles Darwin) مؤسس نظرية التطور أن الأرض والقمر كانا جسما واحدا،
وأن كتلة الأرض المنصهرة الحارة التي كانت في بداية تكوينها في المجموعة
الشمسية أي بعد 30 – 50 مليون سنة من التكون، كانت هذه الكتلة تدور حول
نفسها فقذفت كتلة كبيرة بسبب القوة الطاردة المركزية، وهذه الكتلة هي
القمر، وباستخدام القوانين الرياضية النيوتونية للأجسام قام بحساب حركة
القمر، فاكتشف أن القمر – يوما ما – كان قريبا من الأرض، وأخذ بالابتعاد
تدريجيا (وفعلا القمر إلى يومنا هذا يبتعد عن الأرض كل سنة 3.8 سم)، بقيت
هذه الفرضية حية حوالي 100 سنة، ولكن لم تصمد الفرضية هذه حيث أن المشكلة
الأساسية فيه أنه حتى يمكن للأرض أن تقذف كتلة ملتهبة لابد لها أن تدور
بسرعة هائلة، وكان الاعتقاد أن الأرض قبل 4.5 مليار سنة كان يومها قصيرا
جدا، قد يصل إلى 4 ساعات بدلا من الـ 24 ساعة، وحتى ذلك لم يكفي لأن ترمي
الأرض بكتلة القمر، لتصحيح الفرضية افترض العلماء أن الأرض كانت تدور حول
نفسها بحيث يكون طول اليوم أكثر من ساعتين بقليل، ولكن هذا يعني أن الأرض
ستنضغط وستتطح بسبب هذه السرعة الهائلة، والمشكلة الأخرى أنه لا يمكن
الوصول من تلك السرعة في الدوران إلى السرعة الحالية التي يكون فيها اليوم
24 ساعة.
الفرضية الأخرى التي
اقترحها العالماء لتفسير تكون الأرض هي نفسها التي اعتمدت عليها الأرض
للتكون، فالأرض تكونت في المجموعة الشمسية من خلال اجتماع كتل صغيرة
وكبيرة، فيمكن أن يكون قد تكون القمر بنفس الطريقة من تجمع للأجسام
تدريجيا، ولكن حتى هذه الصورة لم تصمد أمام الحسابات الرياضية، فقد قام
العلماء بحساب كثافة القمر من كتلته وحجمه، واكتشفوا أن كثافة القمر أقل من
كثافة الأرض، فإذا كان تكون القمر اعتمد على نفس الطريقة التي تكون فيها
الأرض فما السبب في اختلاف الكثافتين.
وهناك أيضا فرضية
القبض، والتي تنص على أن القمر تكون في مكان آخر في المجموعة الشمسية وتحرك
ناحية الأرض، وبمجرد اقترابه قبضت عليه جاذبية الأرض، ولكن حتى هذه الفكرة
تحتاج لأن تتغير سرعة حركة القمر بعد القبض عليه حتى يثبت في المدار الذي
هو فيه حاليا.
إذن ما هي أفضل فرضية تشرح تكون القمر؟ إنها فرضية التصادم العملاق.
بعد حوالي 100 مليون
سنة من تكون المجموعة الشمسية كانت الأرض تدور في مدارها حول الشمس، وعلى
مقربة وفي نفس المدار الذي تدور به الأرض كان هناك كوكبا آخر يدور حول
الشمس، ولكنه لا يلتقي مع الأرض، يتلقى الضربات من الشهب والنيازك ومع كل
ضربه تزداد حراراته، تفصله عن الأرض مسافة، حتى تلقى الضربة الأخيرة التي
حركته من مكانه، فتحرك ناحية الأرض متجها لها للإتلقاء بها، كوكب بحجم
المريخ، أثقل منه 3 مرات، هائل في حجمه، ملتهب، منصهر، لبه الحديد، الأرض
هي أيضا منصهرة حمميه متجهة في مسارها المعتاد بلبها الحديدي، تقترب من
الكوكب المنصهر وتجذبه بقوتها الجاذبة، يقترب الكوكبين من بعضهما البعض
للتصادم بعنف، فيضرب الكوكب الأرض ضربة مدمرة بسرعة 40000 كيلومتر في
الساعة، ويغوص ويذوب في الأرض، ويمتزج اللبين، وكما تلقى الصخرة في بركة،
تطايرت أجزاء من قشرة وغلاف الأرض والكوكب إلى الفضاء، حمم بركانية وأشلاء
تسبح في الفضاء الخارجي، هذه الضربة من قوتها سرعت دوران الأرض، تطايرت هذه
الأشلاء بشكل حلزوني جميل حول الأرض بسبب دورانها حول نفسها، فأمسكت الأرض
بهذه الأشلاء بفعل جاذبيتها، وأخذت تسبح في مدارها، فتجمعت هذه الجزئيات
وتراكمت، وعلى مدى أقل من قرن تكونت كتلة كبيرة، لتكون هذه الكتلة القمر
كما نعرفه اليوم.
هذه هي أصح فرضية
قبل بها العلماء، ولكنها لم تقبل مباشرة، فقد اقترحها فريقين من العلماء
بانفراد في السبعينات، ولكن تردد العلماء في قبولها، وفي مؤتمر في سنة 1984
تداول العلماء النظرية، حيث منذ السبعينات إلى يوم المؤتمر أخذت النظرية
بالانتشار والقبول بشكل تدريجي، وباستخدام الكمبيوتر لتمثيل التصادم الكبير
استطاع العلماء – وخصوصا مؤخرا وتحديدا في سنة 1998 – من حساب – بدقة –
تلك الكيفية التي تصادم فيها ذلك الكوكب مع الأرض لينتج منه القمر،
بالإضافة لذلك، حينما عاد رواد الفضاء من القمر أحضروا معهم أكثر من 2000
عينة من الصخور والتراب من القمر وبتحليل هذه الصخور ثبت أن نظائر الأكسجين
التي على القمر قريبة جدا لتلك التي في غلاف الأرض، وهذا يدل على غلافي
الأرض والقمر لهما علاقة ببعضهما البعض، ومن خلال دراسة المواد المشعة من
الصخور التي جلبت من القمر عرف العلماء أنه لا يمكن أن يكون القمر أقدم من
الأرض أي أنه كان جسما قد تكون مسبقا في المجموعة الشمسية قبل الأرض
واجتذبته الأرض بعد ذلك، وهذه الدراسة بينت لهم أن القمر لابد أنه نشأ من
قشرة الأرض. ولكن لا تزال
هناك مجموعة من التناقضات التي لابد للعلماء من علاجها حتى تصبح هذه
الفرضية نظرية، فواحدة أن ضربة لكوكب أثقل من المريخ بثلاث مرات من المفروض
أن يسرع من دوران الأرض بدرجة أكبر مما هي عليه الآن، وأشياء أخرى لن
أتطرق لها في هذه الحلقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رجاء كتابة تعليقك