Wikipedia

نتائج البحث

الأحد، 25 مارس 2012

طبيعة الفكر الجغرافي

طبيعة الفكر الجغرافي وتطوره 
أ.د. جهاد محمد قربة 
     لا يمكن أن نتعَّرف على طبيعة الفكر الجغرافي وتطوره، إلا عن طريق استعراض التاريخ الجغرافي، كقصة من قصص التطور العلمي. وخير المناهج التي اتبعت الطريقة التاريخية في فهم الجغرافيا هو منهج الجغرافي الألماني الفرد هتنز Alfred Hettner ، الذي يعد بحق أما الفلسفة الجغرافية والمنهج الجغرافي.

       يرجع الاهتمام بالمعلومات الجغرافية إلى عصور قديمة جداً، ويمكن أن نعثر على شذرات منها في "الإلياذة والأوديسة" التي كتبها الشاعر اليوناني الشهير هومروس، في القرن التاسع قبل الميلاد، يصف فيها طبيعة البلاد التي مرّ بها اليونان، وأحوال سكانها ونظم الحياة فيها. وكذلك قصة " الفرسان العرب " التي ورد فيها وصف شيقّ لسبع رحلات قام بها التجار العرب إلى موانئ المحيط الهندي، وكان السندباد البحري هو أحد هؤلاء الفرسان(1).
       هذه القصص وأمثالها كانت الطابع المميز للكتابات الأولى، التي ظهرت عن المناطق التي شاهدها الرحّالة الأوائل، وكان من الصعب الفصل فيها بين الحقيقة والخيال، إذ كان الخلط فيهما أمراً واضحاً. ولكن مع مرور الزمن وكثرة الرحلات وزيادة المعرفة، بدأت كثير من الخرافات والمعتقدات الخاطئة يندثر ويحل محلها الحقائق العلمية المبنية على الملاحظة الدقيقة.
       فالتفكير الجغرافي إذن قديم قدم الإنسانية ذاتها، والمجهودات التي قام بها المفكرون من أجل تفهم الظاهرات الكونية المحيطة بهم، وتفهم مركز الإنسان بين هذه الظاهرات، تعتبر المنشأ الأول للجغرافيا. ويبدو أن سكان الحوض الشرقي للبحر المتوسط، كانوا من أوائل الذين أسهموا في نمو المعرفة الجغرافية؛ إذ نشأت في هذه المنطقة أقدم الحضارات التي عرفتها الإنسانية(2).
       حقيقة أنه نشأ في الصين والهند بعض الحضارات القديمة التي عاصرت الحضارات الموجودة في المنطقة العربية، غير أن طبيعة الموقع الجغرافي لهذه الحضارات لم يسمح لها بالنمو والتطور، بالدرجة التي تطورت بها حضارات الحوض الشرقي للبحر المتوسط؛ فالعزلة والتطرف كانا السببين الرئيسين في تخلف تلك الحضارات عن مثيلاتها التي قامت في وادي النيل وما بين النهرين، تلك الحضارات التي استغلت توسط موقعها الجغرافي في العالم، فازدهرت عن طريق الاتصال التجاري والاحتكاك الثقافي (1).
       لقد كانت الجغرافيا في بداياتها الأولى، تتخذ من الكون ميداناً لها، وكانت ظواهر هذا الكون، تشكل آنذاك المحتوى الموضوعي والإطار العام للفكر الجغرافي. ولما استقل علم الفلك بميدانه، الذي يشمل ظواهر الفضاء الخارجي للأرض، أصبح لزاماً على الجغرافيا أن تقصر دراساتها على الأرض ميداناً لها، وتتخذ من ظاهرات الأرض المختلفة موضوعاً لدراستها، أي أن لجفرافيا كانت علم الأرض كل الأرض .
       وهناك فرق بين المعلومات الجغرافية وعلم الجغرافيا؛ فالمعلومات الجغرافية معروفة منذ بداية الحياة الإنسانية، إذ أن الإنسان كان لابد أن يتعرف على بيئته وعن مواطن الرزق فيها. أما علم الجغرافيا فهو يعنى بجمع هذه المعلومات الجغرافية وعرضها وتحليلها وتفسيرها وفق منهجية علمية محددة. وقد انتظر العالم قروناً عديدة قبل الوصول إلى هذا المستوى من المعرفة العلمية، وكان من الطبيعي أن يبدأ ذلك في بلاد الإغريق فإليهم يرجع الفضل في تسمية هذا العلم، وفي إرساء قواعده وأسسه، وهم الذين صاغوا كثيراً من الفرضيات والنظريات عن الكون ونشأته، والأرض وسطحها وأبعادها وحركاتها، وما تحويه من مظاهر طبيعية وبشرية .

الجغرافيا الاغريقية:
       وفعلاً فقد تمت المعلومات الجغرافية وتطورت في عهد الإغريق، فقد قال أرسطو (384-322 ق.م ) بكروية الأرض، وبرهن على كرويتها بدليل أن ظلها على القمر الناتج من الخسوف يتخذ الشكل المستدير(2). وعرف هيكاتيوس (500 ق.م ) يومئذ بأنه أبو الجغرافية، إذ يمثل كتابه" دوران الأرض " أول محاولة لوصف العالم المعروف آنذاك وصفاً منظماً. لما كان استرابون أشهر الجغرافيين القدماء (58 ق.م - 25م ) إذ قام برحلات متعددة ، ضمن نتائجها في سبعة عشر مجلداً، ووصف المناطق التي زارها على أنها أقاليم مختلفة لكل منها شخصية متميزة، وعلى هذا فقد عرف الجغرافيا وعرفها بأنها دراسة للأقاليم المختلفة " .

مدرسة الإسكندرية :
       انتقل المركز الثقافي العالمي في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد، من أثنيا إلى الإسكندرية، حيث تأسست وازدهرت في عهد الأسرة البطلمية مدرسة تضم عدداً من الجغرافيين الكبار، نذكر منهم ايراتوستين ( 276-194 ق.م ) الذي يعتبر إمام الجغرافيين في العالم القديم، وقد أثبت كروية الأرض بالبراهين الرياضية، كما حسب حجم الأرض وأبعادها بمقاييس دقيقة، وحسب خطوط الطول والعرض لأماكن عديدة، والتي بني على أساسها تقسيم العالم إلى أقاليم جغرافية، ابتداءً من خط الاستواء وانتهاءً بالقطب، وكذلك هيبارخوس (160 ق.م ) وبطليموس ( القرن القاني قبل الميلاد).
       وقد تطورت الجغرافيا الرياضية على يد اراتوستين (*) ، الذي كان رئيساً للمكتبة الملكية في الإسكندرية، وكان مؤلفه " الجغرافيا " يضم ثلاثة كتب خصص الأول لمناقشة الجانب الطبيعي في الجغرافيا، والثاني للجغرافيا الرياضية، والثالث للجغرافيا الوصفية.
       ويمكن القول بأن الدراسات الجغرافية في مدرسة الإسكندرية بلغت أوجها على يد بطليموس، الذي استطاع أن ينظم المعلومات الجغرافية وينسقها ويصنفها، حتى أصبح كتابه " الجغرافية " ، أهم مرجع للجغرافيا في عصره وللجغرافيين الذين جاءوا من بعده(1). (2)
       أما الرومان فلم يعنوا بالجغرافيا العناية الكافية في بداية عهدهم، إلا عندما اتسعت أملاكهم، واستولىعلى بلاد اليونان، فبهرتهم علومهم، فاقتبسوا منها الشيء الكثير. وكان يوليوس قيصر أحد أبرز القادة الرومان، الذين كانوا يقومون بتدوين الملاحظات الجغرافية عن الأقطار التي يقوم بغزوها. وهناك اسماء جغرافية يمكن الإشارة إليها بصورة عابرة نذكر منها ميلا Mela وسينيكا Seneca وبليني Bliny .
       ومنذ القرن الثالث للميلاد، بدأ الفكر الجغرافي الإغريقي - الروماني بالاضمحلال، وذلك على الرغم من بعض المحاولات المتواضعة التي قام بها بعض الكتاب في القرنين الرابع والخامس للميلاد. والواقع، إن تحول الدولة الرومانية إلى الديانة المسيحية ( عام 324 بعد الميلاد ) ، قد أدى إلى سيطرة الكنيسة على الفكر سيطرة مطلقة، وأصبح رجال الدين هم القيمون على الثقافة، كما غدت الكنيسة هي المؤسسة الثقافية الوحيدة في الدولة، وأصبحت تعاليمها وحدها هي السائدة، ومن ثم فقد حرمت الكتب القديمة، بما فيها من معلومات عن الأرض والكون والبشر، باعتبارها مناقضة لما جاء في الكتاب المقدس(1).
       وظل الأمر على هذا الحال حتى ظهور الإسلام، في مطلع القرن السابع للميلاد، حين قام العرب بحمل مشعل الجغرافيا، التي اضمحل شأنها في العصور الوسطى، وتدهورت فيها حضارة أوروبا، فكان لهم الفضل في إحيائها. وحفظ ما تبقى من تراثها.
       والواقع، إنه قبل القرن التاسع، لم تكن هنالك مؤلفات جغرافية قائمة بذاتها، إنما تقابلنا من وقت لآخر معلومات جغرافية متناثرة، حفظها لنا التراث الأدبي فيما بعد، أو تردد صداها في الرحلات الجغرافية. ولكن لابد من التأكيد بأن تلك المؤلفات ليست من الجغرافيا في شيء، وإنما هي مجرد إرهاصات جغرافية(2).
       ويمكن القول بأن الكتابات الجغرافية العربية قد مرت خلال تطورها بمراحل عديدة؛ فقد ظهرت أولاً المؤلفات الجغرافية التي عنى بكتابتها علماء اللغة، يدفعهم إلى ذلك الاهتمام بجزيرة العرب واللغة العربية، ومن أمثلة ذلك تلك المؤلفات المبكرة، نذكر منها : كتاب البلدان الكبير وكتاب البلدان الصغير لهشام بين الكلبى وكتاب الأمصار والبلدان للجاحظ .
       ولكن بذرة الحركة الجغرافية العربية ترقد في الواقع في أعمال بطليموس، ففي القرن التاسع ترجمت جغرافيته عدة مرات إلى العربية. كما كان كتابه هذا نموذجاً لكتاب " صورة الأرض " للخوارزمي، و "صورة الأرض" أيضاً للبتاني. بيد أن أهمية بطلموس تضاءلت بعد ذلك، وتعرض لكثير من النقد والتقبيح والتعديل، وأخذت الجغرافيا العربية تستقل عن نفوذ المدرسة الإغريقية ، وتبدأ في إنشاء مدرسة عربية مستقلة.
       وهكذا، بدأت الجغرافيا العربية بالنقل والترجمة، ولكنها لم تلبث أن استقلت وحققت أصالتها، ثم أخذت في التراجع والانحدار كغيرها. وعلى هذا فقد مرت الجغرافيا العربية بدورين هما :
دور النشأة : وهو يرتبط بظهور الإسلام، ويمثل بداية عصر نهضة جغرافية، يمكن أن نرجعها إلى أسباب عديدة، أهمها: الفتح والحج والتعاليم الإسلامية .
       لقد أدى الفتح واتساع رقعة الخلافة الإسلامية إلى ظهور مهام جديدة، استلزمت بدورها جمع معلومات دقيقة عن التقسيمات الإدارية والمناطق المأهولة والمحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية وتقدير الخراج والضرائب العينية والنقدية. وتطلبت المركزية في النظام الإداري، الذي تجمعت خيوطه في بغداد، شق طرق جديدة للمواصلات، واستيفاء معلومات دقيقة عن تلك الطرق والبلاد، مع  تعداد المراحل ومنازل البريد وظروف السفر وتحديد المسافات. ولذلك فقد كانت فاتحة هذا النمط من التأليف الجغرافي تتمثل في كتب" المسالك والممالك " لابن خردازبة، وكتاب " الخراج " لقدامة بن جعفر وكلا هذين الكتابين، ولاسيما الأول منهما، يعنى عناية فائقة بطرق المواصلات وأطوالها وحالة الأمن فيها .
       وكذلك كان الحج مدرسة عملية في الرحلة والكشوف الجغرافية، تجمع تلاميذها من جميع الأقطار الإسلامية، فالحج مدخل طبيعي إلى الجغرافيا، ويكفي أن نذكر أن ابن بطوطة مثلاً بدأ حاجاً وانتهى رحالة جغرافياً. والواقع ، أن كلاً من الفتح والحج جعل الفترة الإسلامية بحق فترة الكشوف الجغرافية الأولى أو البرية التي سبقت الكشوف الجغرافية البحرية المعروفة .
       والتعاليم الإسلامية تدعو بوضوح إلى الحركة الجغرافية" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"(1). وفعلاً فقد أصبح الارتحال في طلب العلم منذ القرن الأول للهجرة أشبه بالضرورة اللازمة لتكملة "دور الدراسة" ففي طلب العلم رحل الناس من الأندلس الى بخارى ومن بغداد الى قرطبة . أما "دور الأصالة"  فهو يمتد من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر، وهو الدور الذي بلغت فيه المدرسة الجغرافية العربية أوجها، وذلك بظهور المدرسة الكلاسيكية للجغرافيين العرب، بما تميزت به من اهتمامها بوصف" المسالك والممالك" وصلتها الوثيقة " بأطلس الإسلام "، الذي يمثل القمة الفنية في رسم المصورات الجغرافية عند العرب .
       وهكذا، فقد خطيت المدرسة الجغرافية العربية باهتمام بالغ، بسبب تنوع مادتها وغناها؛ فهي تارة علمية وتارة شعبية، وهي طوراً واقعية وأسطورية على السواء. تكمن فيها المتعة، كما تكمن فيها الفائدة ولذا فهي تقدم لنا مادة دسمة متعددة الجوانب، لا يوجد مثيل لها في مدرسة أي أمة معاصرة للعرب.
       وقد ترك لنا الجغرافيون العرب وصفاً مفصلاً لجميع البلدان التي عرفوها، من إسبانياً غرباً إلى تركستان ومصب السند شرقاً، مع وصف دقيق لجميع الأماكن المعمورة واللامعمورة... إلخ. وظهرت كتب كثرة تصف البلاد المعروفة، ربما كان أقدمها كتاب " المسالك والممالك " الذي كتبه ابن خردازنة ( 846م) وتلاه كثير من الكتب أشهرها " البلدان " لابن واضح اليعقوبي ، " والأعلاق النفيسة " لابن رسته، و "مسالك الممالك" للإصطخرى، و " صورة الأرض " لابن حوقل، و " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " للإدريسي، و " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم " للمقدسي، و " معجم البلدان " لياقوت الحموي، " و "تقويم البلدان" لأبي الفداء أمير حماه .
       وأدرك العرب أهمية الخريطة، فوضع البلخي أول أطلس عربي، ورسم المقدسي خرائط لكل قسم من الأقسام الأربعة عشر، التي قسم إليها العالم الإسلامي، واستخدم الألوان للتمييز بين المظاهر الجغرافية المختلفة. وصنع الإدريسي كرة أرضية من الفضة، بين عليها الأقاليم المناخية السبعة، ووضع خريطة متصلة للعالم المعروف في زمنه(1).
       وفي المؤلفات الأجنبية شهادات اعتراف وتقدير لما حققه الجغرافيون المسلمون من إنجاز كبير، نذكر منها دائرة المعارف الفرنسية التي تقول : بأن الشريف الإدريسي يعتبر أعظم وثيقة علمية جغرافية في القرون الوسطى" . ويؤكد أندريه ميكيل " إن المقدسي مؤسس الجغرافيا البشرية "(2). كما وصف اشبرنجر " بأنه أكبر جغرافي عرفته البشرية قاطبة" ، وهذا بالإضافة إلى  الأصالة التي كانت موضع إعجاب وتقدير ثلاثة من كبار جغرافي الولايات المتحدة، في مؤلفهم الشهير " نظم الجغرافيا الاقتصادية، الذي أكدوا فيه أن نظرية المكان المركزي وفكرة التدرج الهرمي الإقليمي والحضري، ليستا جديدتين على الفكر الجغرافي العربي، إنما ترجعان في أصولهم إلى المقدسي(3). ويجمل غوستاف لوبون" هذه الشهادات بقوله : " كتب العرب في علم الجغرافيا مهمة للغاية ، وقد كان بعضها أساساً لدراسة هذا العلم في أوروبا قروناً كثيرة " .
       دور الانحدار : وفيه ينتهي الطور الخلاق في الجغرافيا العربية، والذي أصابه العقم بعد ذلك، فلم ينتج أي صور جديدة هامة، بل اكتفى بتقليد الأنماط السابقة، فيما عدا بعض التعديلات القليلة. وبرغم هذا فإنه لم يتضاءل من حيث الكم حتى في عهد السيادة العثمانية على الدول العربية .
       وفي هذا الدور، مازال الارتباط بين الفلك والجغرافيا تقليدياً، وكان تفوق العرب في الفلك تفرقاً رائعاً، بل أصبح المجال الوحيد للأصالة والتجديد؛ فقد ظهر فيه فلكيون متميزون، من أمثال الزركلي صاحب " جدول طليطلة، والمراكشي وأبن الهيثم وغيرهم كثير .
       وإذا كان تأليف المعاجم الجغرافية يرجع في بداياته إلى القرن العاشر، على أيدي اللغويين ، فإن هذا النمط من التأليف قد قل شأنه في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ثم عاد للظهور ثانية في القرن الثالث عشر، موذناً بفاتحة عهد جديد لازدهار هذا اللون الفني من الأدب الجغرافي العربي، وذلك من خلال عدد من المصنفات الهامة، نذكر منها ما كتبه الزمخشري والإسكندري والحازمي. ولكنها بلغت أوجها في القرن الرابع عشر، على يد ياقوت الحموي في مؤلفه الشهير " معجم البلدان " ، الذي احتل ، عن جدارة ، الذروة في مجال فن المعاجم الجغرافية. ومن الجدير بالذكر، أن أول معجم جغرافي ظهر في أوروبا، هو معجم اورتلي Ortelius في القرن السادس عشر، وهذا يعني أن المكتبة العربية قد زخرت بعدة معاجم جغرافية قبل أن تعرف أوروبا المعاجم بقرون عديدة(1).
       ومنذ القرن الخامس عشر بدأت شمس الجغرافيا العربية بالأفول، ولم تظهر خلال ذلك القرن باللغة العربية سوى مصنفات تنتمي إلى النمط الذي يمكن تسميته" بالجغرافيا الملاحية " أو " الجغرافيا البحرية "، والتي كان من أبرز كتابها ابن ماجد في كتابه المعروف " الفوائد في أصول علم البحر والقواعد " ، وسليمان المهري الذي عرف بكتابه " العمدة المهدية " الذي يعتبر من أهم الكتب الملاحية(2).
تاريخ الجغرافيا الحديثة :
       يبدأ تاريخ الجغرافيا الحديثة في القرن السابع عشر بداية غامضة، ويمكن اعتبار كتاب قارنيوس Karnius الذي صدر في منتصف القرن السابع عشر بعنوان " الجغرافية العامة " ، علامة مضيئة في تاريخ الفكر الجغرافي الأوروبي، كما أن بعض الجغرافيين يعتبرونه المؤسس الحقيقي للعلم الجغرافي؛ فقد أطلق على دراسة الظاهرات الطبيعية والبشرية دراسة عامة اسم " الجغرافية العامة " والدراسة الإقليمية لأجزاء مختلفة من سطح الأرض اسم " الجغرافية الخاصة "(3). وبرغم أن العمر لم يمتد بفارنيوس ليفصل ما أجمل، فإنه قد وضع بهذا المفهوم الجديد قواعد الدراسة الجغرافية السليمة لأول ثنائية تقليدية في الجغرافيا، وهي الأصولية ( أو العامة ) والإقليمية ( أو الخاصة )(4).
       وقد ساعدت الكشوف الجغرافية الكبيرة على تقدم الدراسات الجغرافية، تلك الكشوف التي بدأت منذ منتصف القرن الخامس عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكان هم المشتغلين بالجغرافيا، أثناء تلك الفترة، تصحيح معلوماتهم عن سطح الأرض، بحيث تصبح وافية ومطابقة لأحدث المستكشفات في ذلك الزمن. ومع ذلك، يجب أن لا نقلل من أهمية تلك القرون الخطيرة في تاريخ الجغرافيا، التي جمعت فيها الحقائق والمعلومات عن سطح الأرض، إذ كانت الأساس الذي لابد منه للنهوض بالجغرافيا، وكان من المستحيل أن تنشأ الجغرافيا الحديثة لو لم تستند إلى معلومات صحيحة عن الأرض وطبيعتها وسكانها ونباتها وحيوانها ... الخ .
       وعموماً، يمكن أن نحدد مراحل الجغرافيا الحديثة وتطورها على النحو التالي :
       1 - الفترة السابقة للكلاسيكية من 1750 - 1800 م.
       2 - الفترة الكلاسيكيـــة  من 1800- 1859 م.
       3 - الفترة ما بعد الكلاسيكية من 1859 - 1904 م.
       4 - الفترة المعاصـــرة  من 1904 - 1980 م.
       5 – فترة العولمة من 1980 – حتى الآن .
1 - الفترة السابقة للكلاسيكية :
       تستمد هذه الفترة أهميتها من اعتبارها نواة لجميع الأفكار والمذاهب المعاصرة؛ فقبل هذه الفترة كانت الجغرافيا " نفعية " ، أي أنها كانت وسيلة أكثر منها غاية، فقد كانت بمثابة سندريلا التاريخ " أي تخدمه بالتقديم والتفسيرعن طريق وصف أو بيان الخصائص الجغرافية لمواقع الأحداث التاريخية. كما كانت تدرس لفائدتها في أمور الحكم والإدارة ، وأخيراً كمتعة عقلية ومادة للحديث في المجتمعات الراقية(1).
       ونتيجة لاتساع المعرفة في القرن الثامن عشر، وظهور عدد كبير من العلوم الطبيعية التي تعنى بدراسة ظواهر الأرض المختلفة، فقد ظهر رد فعل عنيف يستهدف استقلال الجغرافيا، يتمثل في صورة حركة " الجغرافيا البحتة " ، التي لا تريد خدمة أغراض علوم أخرى، مما ترتب على ذلك ضيق نطاق علم الجغرافيا وتحديد مجالاتها . وكانت الخطوة الأولى نحو الجغرافيا البحتة هي البحث عن الحدود الطبيعية، لا السياسية المتبدلة، كما ساد البحث عن الحدود الرطبة ( الأنهار ) والحدود الجافة في وقت من الأوقات، ويقصد بها خطوط تقسيم المياه .
       ومن أبرز الذين أسهموا في تحديد معالم تلك الفترة كانت Kant (1724-1804م)، الذي انصب اهتمامه على الجغرافيا الطبيعية، وجعلت منه فيلسوفاً جغرافياً. لكن مفهوم الجغرافيا الطبيعية في نظره يختلف عما نعرفه اليوم، فلم يكن يقصد بها الشق المقابل للجغرافيا البشرية، فمجال الجغرافيا الطبيعية عنده هو العالم في حدود ما نحتك به. وبمعنى آخر، إن جغرافية " كانت " الطبيعية كانت تدور حول محور إنساني وهذا الاتجاه يتفق مع فلسفته المثالية، التي كانت تؤمن بتكامل الحقيقة الكونية .
       وآل فورسترز The Forster's أيضاً لعبوا دوراً هاماً في هذه الفترة، فقد قادهما احتكاكهما المباشر مع الطبيعية، خلال رحلاتهما الواسعة، إلى إدراك العلاقة بين الإنسان والبيئية ، وركزا اهتمامهما بشكل خاص على الجغرافيا الإقليمية، بينما انصرف " كانت " إلى حدٍ كبير إلى الجغرافيا الأصولية .
2 - الفترة الكلاسيكية :
       لاشك في أن الجغرافيا الحديثة مدينة بوجودها إلى العالمين الألمانيين الشهيرين " الكسندر فون همبولت " (1769-1859م) و " كارل ريتر " ( 1779-1859 م) . وبين كل من همبولت وريتر أوجه تشابه واختلاف، ولكن الحقيقة الهامة هي أن التشابه أوسع بكثير من مسافة الخلف بينهما؛ فكل منهما كان نتاج عصره من الناحية الفلسفية ، فلم ير أحد منهما تعارضاً بين العلم والفلسفة في ظل المثالية الرومانتيكية السائدة، واتخذ كل منهما وحدة العالم مثالية له، وهي " الوحدة في التنوع ". إلا أن همبولت لم يأخذ بغائية تلك الوحدة، كما فعل ريتر؛ أي أنه لم يخضع لغائية العصر التي ترى أن الأرض ككل لابد أن تكون هادفة مخططة، لتكون مشتلاً للإنسان ... الخ .
       وإذا كان ريتر يمتاز على همبولت بفكرة الشخصية الإقليمية، التي لم يكن الأخير إلا تابعاً له بها، فإن همبولت قد امتاز باستخدامه أسلوب المقارنة، الذي لم يكن ريتر إلا مديناً له به. وقد يكون اهتمام همبولت بالإنسان بالنسبة للطبيعة أقل من اهتمام ريتر، ولكنهما كانا متفقين على أن مثالية وحدة العالم حيوية لوحدة الجغرافيا من الناحية العلمية، وضمان ضد أي ثنائية زائفة بين الإنسان والبيئة .
3 - الفترة ما بعد الكلاسيكية :
       يمكن تقسيم هذه الفترة إلى مراحل عدة ، تمثل سلسلة من ردود الفعل العكسية الجدلية (الديالكتية) وقد يكون من الأنسب تحديد بداياتها دون نهاياتها، بسبب التداخل الزمني فيما بينها، واستمرار أغلب حركاتها إلى الوقت الحاضر معدلة أو على حالها .
       المرحلة الأولى ( من عام 1859 - ) : وهي المرحلة الحرجة في تطور الجغرافيا، لأنها خط التقسيم لمنطقة الصراع بين طوالع المادية ورواجع المثالية؛ فالقواعد التي أرساها ريتر وهمبولت لم تقدم ميداناً محدداً واضحاً مما ترك الفرصة لمن أتى بعدهما لن يتخذ موقفاً جزئياً ينادي بهذه الفكرة أو تلك من آرائها أو مستنداً إليهما، ومن ثم تمتاز هذه المرحلة بظهور تيارات متعارضة ، وأهمها اثنان :
الأول : تيار امتدادي للفترة الكلاسيكية عامة وريتر خاصة، ويتميز هذا التيار بتوجيه الاهتمام إلى الجغرافيا التاريخية، بصفة عامة، والجغرافيا البشرية منها بصفة خاصة، كما كانت الذبذبة نحو الإقليمية وبعيداً عن الأصولية. ومن أهم تلاميذ ريتر في هذه المرحلة جيوت Guyot في أمريكا وركلوس Reclus في فرنسا(1).
الثاني : تيار علمي، يتفق مع روح العصر المادية، ذلك أن الاتجاه العلمي السائد في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، لم يكن ملائماً للأفكار الفلسفية التي تميزت بها رومانسية الفترة الكلاسيكية.
المرحلة الثانية ( من عام 1870 - ) : وهي رد فعل ضد تاريخية ريتر، واتجاه نحو الجغرافيا الطبيعية وقد بدأ هذا الاتجاه على يد بيشل Peschel الذي يعد كتابه " مورفولوجيا الأشكال الأرضية " عام 1870م، ثورة كاملة في الجغرافيا الطبيعية. فقد أدخل فيه الروح العلمية الجغرافية من جديد، وحطم إطار المثالية والغائية والوحدة القديم، وحول الاهتمام من الدراسة الإقليمية إلى الأصولية من جديد، ولهذا يعده بعض الجغرافيين، مع ريتر وهمبولت، ثالوث أساتذة الجغرافية الحديثة. وقد سار على منوال بيشل في الاهتمام بالمظاهر التضاريسية ثلاثة من أساطين الجغرافيا الطبيعية، وهم : ريختوفن Richthofen وبنك Penk وديفيز Davis .
       وقد وصلت المبالغة في الجغرافيا الجيورفولوجية أقصاها على يد جيرلند Gerland عام 1887م، حينما عرف الجغرافيا بعلم الأرض، لأسطح الأرض، واستبعد الإنسان منها كلية، لتكون علماً حقيقياً بمعنى الكلمة، له قوانين ثابتة، وبهذا أصبحت الجغرافيا دراسة في علم طبيعة الأرض Geo-physics. وبرغم أن دعوة جيرلند لم تلق أي استجابة، إلا أنها تدل على مدى الانحراف الذي أصاب الجغرافيا من جراء الاقتصار على الجيورفولوجيا .
       والخلاصة، أن الحركة الجيورفولوجية التي بدأها بيشل تمخضت عن ظاهرتين، هما الاهتمام بالناحية الطبيعية وإهمال البشرية، والاهتمام بالدراسة الأصولية وإهمال الدراسة الإقليمية .
المرحلة الثالثة ( من عام 1882 - ) : وهي رد فعل عنيف ضد الحركة الجيورفولوجية، وإعادة الاهتمام بالإنسان. وقد بدأ ذلك على يد راتزل Ratzel  الذي أراد أن يقيم جغرافية الإنسان على أسس علمية منهجية، متأثراً بذلك بما فعله ريتر في كتابه " دراسة الأرض " Erdkunde ، فنشر في عام 1882م كتابه المشهور Anthropo-geographie(2) ، الذي يمثل ثورة كاملة في الجغرافيا البشرية، وفعل راتزل بكتابه هذا ما فعله بيشل في المورفولوجيا. على أن راتزل يختلف عن ريتر في ناحيتين : فهو أولاً يعالج الجغرافيا البشرية أصولياً لا إقليمياً ( أي في العالم كله )، كما أنه يعالجها ثانياً من وجهة نظر داروينية ( تطورياً ) .
       وقد خرجت تعاليم راتزل من ألمانيا لتنتشر في أمريكا على يد سميل Semple وهنتكتون Huntington الذي ألف مكتبة كاملة في دراسة حتمية تأثير البيئة على الإنسان والتاريخ والحضارة وحين ظهر باروز Barrows ، ودعا الجغرافيا " بالايكولوجيا البشرية " Haman ecology ، أصبحت الجغرافيا علم العلاقات بين البيئة الطبيعية والظاهرات البشرية .
       وإذا كان هناك امتداداً واضحاً لراتزل وحتميته في فرنسا، تتمثل في آراء لوبلاي Leplay ودومولان Demolins وتورفيل Tourville ، فإن هناك اتجاه مضاد ظهر على يد دولابلاش De Lablache، وتابعه من بعده برون Brunhes وفالو Vallaux وغيرهم وهذه المدرسة الفرنسية تنكر خضوع الانسان للبيئة  Determinism وتقول بالامكانية Possibilism ولكن هذا التضاد بين الحتمية والإمكانية لا يعني خروج المدرسة الفرنسية عن منهجية راتزل الايكولوجية، هذه المنهجية التي انضوى تحت لوائها في إنكلترا أساتذة من أمثال Fleure وروكسبي Roxby وفيرغريف Fairgrieve .
المرحلة الرابعة ( من عام 1877 - ) : إذا كانت الحركة الانثروبوجغرافية قد حدثت كرد فعل مضاد للحركة المورفولوجية، فقد جمع بينهما قاسم مشترك أصغر يتمثل بالدراسة الأصولية على حساب الإقليمية، وهذا مما أدى بدوره إلى قيام رد فعل مضاد يهدف إلى إعادة الأهمية للدراسة الإقليمية .
       وبرغم أن هذا الاتجاه قد ظهرت بداياته قبل راتزل، إلا أن معالمه لم تتبلور إلا في عام 1877م على يد مارثه Marthe ، الذي عرف الجغرافيا بأنها " علم التوزيعات "، وأعاد استخدام كلمة كورولوجيا الإغريقية، علماً بأن الفكرة الكورولوجية ( الإقليمية ) قد برزت إلى المقدمة منذ عام 1833 م على يد ريختوفن، الذي أدرك أن الكورولوجيا ضرورية لكيان الجغرافيا الأصولية والإقليمية على حدٍ سواء .
4 - الفترة المعاصرة :
       تمتاز الفترة المعاصرة بعدد من الخصائص المميزة ، وأهمها :
أولاً : أخذ احتكار المدرسة الألمانية المطلق للجغرافيا، منذ أوائل القرن العشرين، يقل بظهور مدارس أخرى هامة في الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما. ولكن معظمها ظل في معزل عن المدرسة الألمانية بحكم الحاجز اللغوي، إلا في نقاط احتكاك محدودة، تتمثل في سمبل وديفيزDavis وساور Sauer وهارتسهورن Hartshorn حديثاً(1) ، وتشيزولم Chisholm وهربرتسون وديكنسون. وفي معظم هذه الحالات، لم تكن العلاقة علاقة أخذ وعطاء، إنما كانت علاقة من طرف واحد،أخذ من المدرسة الألمانية، ولم تكن الجغرافيا في المدارس الجديدة سوى تكرار متأخر لابداعات المدرسة الألمانية .
ثانياً : اختفت في هذه الفترة فكرة وحدة الوجود وتكامل الحقيقة الكونية ( مثالية كانتKant )، التي كانت سائدة في الفترتين الكلاسيكية وما قبل الكلاسيكية، وإن كانت تبرز في بعض الأحيان عند الايكولوجيين من أمثال راتزل ودولابلاش .
ثالثاً : استمرت كل من الحركتين المورفولوجية والأنثروبوغرافية في الظهور، في الفترة المعاصرة، بنفس الدرجة التي كانت عليها في الفترة ما بعد الكلاسيكية .
رابعاً : الاهتمام الكبير بالدراسات الأصولية البشرية لاستكمال نقصها الواضح بالنسبة للدراسات الأصولية الطبيعية؛ إذ أنه على الرغم من اتجاه راتزل إلى الأصليات البشرية إلا أن الاتجاه السائد كان ايكولوجياً أكثر منه إقليمياً .
خامساً : أصبح الاهتمام بالدراسات المنهجية ظاهرة هامة في الفترة المعاصرة، فقد زاد الاقتناع بأن الجغرافيا كعلم تركيبي يعتمد في مادته على العلوم الأصولية. ومن ثم يهمها تبريرها الفلسفي أكثر من موادها الأولية .
سادساً : أخذت الجغرافيا في الفترة المعاصرة تخضع لفلسفة العلم السائدة، وهي مذهب الذرائع المعروف بالبرغماتية والمبدأ الذي يوقن بالعلم في سبيل الحياة والمجتمع لا من أجل العلم فحسب، وبذلك اتجهت الجغرافيا إلى الميدان التطبيقي، وأصبحت تعنى بدراسات مشكلات المجتمع من حيث توزيعه وتنظيمه ومرافقه وخدماته في الإطار الإقليمي، وتستهدف أنسب تقسيم إداري طبيعي للمجتمع في إقليمه. والمهم في هذا الاتجاه النفعي أنه ليس إلا عوداً على بدء إذا كانت الجغرافيا توظف لأغراض نافعة أهمها الحكم والإدارة .
سابعاً : على أن أهم ملامح الفترة المعاصرة التي تمنحها شخصيتها، وتميز بينها وبين الفترة ما بعد الكلاسيكية، هي سيادة واستقرار الفكرة الإقليمية استقراراً نهائياً في صميم الجغرافيا؛ فطوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدت الجغرافيا كما لو أنها كانت تتحول إلى مجال مختلف تماماً عما ورثه وطوره ريتر وهمبولت، بتأثير العلوم الطبيعية المتخصصة، ولكن فلسفة ريتر وهمبولت أخذت تعود إلى الجغرافيا على يد "مارته وريختوفن" في أواخر الفترة ما بعد الكلاسيكية بصورة محاولات محدودة، ولكنها لم تتبلور وتستقر إلا في الفترة المعاصرة .
       ويمكن اعتبار عام 1904 م خطاً للتقسيم بين المحاولات المحدودة التي انتهت بوفاة رختوفن وراتزل من ناحية، وظهور هربرتسون الذي وضع أقاليمه الطبيعية عام 1904م من ناحية ثانية ، وكتاباته هتنر المنهجية في المحلة الجغرافية التي أنشأها عام 1905 م، وكرس حياته لحرب صليبية من أجل الإقليم والإقليمية مبرراً لوجود الجغرافيا، وأصر على سيادة الإقليمية في الأصولية أيضاً .
       وقد ظهرت الفكرة الإقليمية في أقاليم كوبن Koppen المناخية وباسارجه Passarge النباتية. كما انتشرت خارج ألمانيا على يد هربرتسون وتشيزولم وديكنسون وماكندر Mackinder في إنكلترا، وساور وفينمان في أمريكا، وميتشوت Mitchott في بلجيكا، وغرانو Grono في هولندا، ومارنللي وأجاجا في إيطاليا، ودولابلاش في فرنسا .
       والآن ، وبعد استعراض الفترات الأربع للجغرافيا الحديثة، يمكن أن ننظر إلى تاريخ الجغرافية الحديثة كلاً متكاملاً، لنتبين خطوطه الرئيسة ومنطق تطوره على النحو الآتي :
       1 - تاريخ الفكر الجغرافي سلسلة من الاهتمامات المختلفة، ففي الفترتين السابقة لكلاسيكية والكلاسيكية لم يكن في الإمكان ظهور غير العموميات، أما التخصص فلم يبدأ بصورة واضحة إلا في الفترة ما بعد الكلاسيكية، وتزايد باطراد في الفترة المعاصرة. وقد بدأ بالجغرافيا الأصولية أولاً قبل الإقليمية، وبدأ بالأصوليات الطبيعية أولاً" بيشل والبشرية ثانياً" راتزل " . أما الإٌقليمية فقد جاءت متأخرة عنهما إلى الفترة المعاصرة " هتنر "، ومن الواضح إن هذا التطور كان منطقياً وطبيعياً .
       2 - كان تطور الجغرافيا جدلياً (  ديالكتيا") وذلك من الناحيتين التصنيفية والسببية على السواء؛ فالمتغيرات التي مرت بها الجغرافيا الحديثة ترجع في تطورها إلى سلسلة من ردود الفعل العكسية، التي كانت تحولها من النقيض إلى النقيض .
             فمن الناحية التصنيفية ، رأينا في الفترة ما بعد الكلاسيكية، أن الجغرافيا العلمية المورفولوجية "بيشل"، بدأت كرد فعل ضد تاريخية " ريتر " . ولكن المبالغة في المورفولوجيا لم تلبث أن أدت بدورها إلى رد فعل مضاد نحو الإنسان : " راتزل " . بيد أن هذا الاهتمام بالأصوليات أدى إلى رد فعل مضاد للمرة الثالثة، وذلك في الاتجاه نحو الإقليمية " مارثة ويختوفن وهتنر " .
            ومن الناحية السببية، فقد رأينا أن الحتم الجغرافي " راتزل " أدى إلى رد فعل عنيف اتخذ شكل الإمكانيات " دولابلاش " . ولكن يبدو أن كل هذه الأضداد وقتية عابرة، بل إنها في الواقع متكاملة أكثر منها متعارضة؛ فقد ذكر هتنر إن الأصولية والإقليمية وجهان لشيء واحد، كما بدأ يثبت الآن أن الحتمية واللاحتمية أمور نسبية، وقد تتعاصر ؛ أي توجد مع بعضها في آن واحد .
       3 - تطورت الجغرافيا كتطور النهر الفيزيوغرافي، من التوسع إلى التضييق، ومن المركب إلى البسيط. فكما يبدأ النهر بعديد من الروافد والمجاري المائية، ثم يأخذ في تحديد مجرى أساسي له، فكذلك بدت الجغرافيا أحياناً كما لو أنها تدرس كل ما تحت الشمس وكل ما على الأرض! .. ولكن هذا التوسع المفرط أخذ يختزل نفسه ويتحدد ويختصر، ليقتصر على الفكرة الإقليمية ( الكورولوجية ) . وفي هذه العملية الاختزالية نبذت الجغرافيا كثيراً من العلوم ذات الصلة التقليدية بها كالفلك والجيولوجيا وعلم الأنواء وعلم الاجتماع!!!! .
       4 - إن تاريخ الجغرافيا كله يتلخص في كونه " عود على بدء " ، فبعد رحلة طولية شاقة في ركاب تعريفات كثيرة مطاطة مثل علم الأرض وطبيعتها (جيرلند) والذي حل محله مفهوم سطح الأرض (ويختوفن وتطور عنه مفهوم اللاندسكيب (ساور)، ويقابله الاندشافت في الألمانية. وعلم التوزيعات ( مارثه ) الذي تطورت عنه مدرسة المواقع الأمريكية. وعلم العلاقات البيئية أو الإيكولوجيا البشرية (باورز )، الذي تطورت عنه فكرة النظم الايكولوجية Eeosystems ( اكرمان وستودارت ).. وبعد صراع طويل مع العلوم الأخرى، عادت الجغرافيا المعاصرة إلى أصولها الإقليمية القديمة، والتي يرى الجغرافي الإنكليزي فيشر  Fisher أن الفضل فيها " الفكرة الإقليمية" يرجع إلى العرب وحدهم. وإذا كانت بذور الإقليمية قد ظهرت عند أرسطو واسترابون، فإنها تبلورت على يد العرب، وأصبحت شائعة في التقسيم الإداري، وبلغت أوجها  في المركب الهرمي الإقليمي والحضري في خطة المقدسي، الذي يمثل قمة التطور الجغرافي العربي "(1).

المراجع العربية
-     أبو الخير ، يحيى بن محمد شيخ . " الأبعاد المفاهيمية للمنهجية العلمية في التراث" الكويت: المجلة العربية للعلوم الإنسانية. العدد التاسع والأربعون، السنة الثالثة عشر ، خريف 1994م. ص ص 161 - 176 .
-     أبو الخير، يحيى بن محمد شيخ. " إحتراف الجغرافيا بين الإئتلاف والإختلاف .. نظرة تحليلية.." الرياض الجمعية الجغرافية السعودية. النشر الجغرافية، السنة الثالثة، العدد الثاني، ذي القعدة 1414هـ - أبريل 1994م . ص ص 15 - 18 .
-     أبو الخير ، يحيى بن محمد شيخ ، " أنموذج للتوازن البيئي .. دراسة في الجغرافيا التطبيقية .. " الدوحة: حولية كلية الإنسانيات الاجتماعية. العدد السادس عشر 1414هـ . ص 393 .
-     أبو الخير ، يحيى  بن محمد شيخ . " المنهجية في العلوم الإنسانية التطبيقية فيما وراء النظرية العلمية .. التأصيل الإجرائي : النماذج .. " . الرياض : مجلة جامعة الملك سعود ، المجلد الخامس، الآداب،، 1413هـ - 1993م ، ص ص 321 - 345 .
-     أبو الخير ، يحيى بن محمد شيخ . " نحو نموذج موحد في الجغرافيا التطبيقية .. أنموذج مقترح.." الرياض : الجمعية الجغرافية السعودية. بحوث جغرافية ، العدد (22) ، 1416هـ - 1995م . ص ص 10 - 13 .
-     أبو الخير ، يحيى بن محمد شيخ . " نظرية التغذية المرتجعية للأنظمة والعمليات الجيومورفولوجية .. المفاهيم والمحددات الرياضية .. " . الكويت : الجمعية الجغرافية الكويتية. العدد (160) ، ربيع الأول 1414هـ .
-     أبو الخير ، يحيى بن محمد شيخ . " النظرية والقانون في العلوم الإنسانية التطبيقية .. الدلائل والأبعاد .. " لندن : دار المريخ . مجلة العصور ، المجلد السابع ، الجزء الأول ، رجب 1412هـ - يناير 1992م . ص ص 127 - 147 .
-     أبو الخير ، يحيى بن محمد شيخ . " واقع الأساليب الكمية في الأبحاث والمؤلفات العربية الجغرافية الحديثة " الرياض : الجمعية الجغرافية السعودية. النشرة الجغرافية ، السنة الرابعة ، العدد الأول ، ذي القعدة 1415هـ - أبريل 1995م . ص ص 10 - 13 .
-     بولخماير، مختار ، " نظرية الطبيعيات الفلسفية عند إبن سيناء " بيروت : دار الحداثة . الطبعة الأولى.
-     تالتش ، محمد بن أسعد نظامي . " منهجية المنهج : مدخل إلى تأصيل لمنهج العلمي " الرياض : مجلة جامعة الملك سعود، المجلد السادس ، الآداب ، 1414هـ - 1994م ، ص 385 - 425.
-     خير ، صفوح . " البحث الجغرافي.. مناهجه وأساليبه .. " . الرياض " دار المريض للنشر . 1410هـ - 1990م .
-     فيليب ، فرانك ( Philip Frank ) . ترجمة علي علي ناصر . بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الطبعة الأولى، 1983م .
-     زيدان ، محمود فهمي. " من نظريات العلم المعاصر " بيروت : دار النهضة العربية ، 1982م، ص ص 13 - 42 .
-     محمد علي ، ماهر عبد القادر . " فلسفة العلوم : المشكلات المعرفية " . بيروت : دار النهضة العربية للطباعة والنشر. الجزء الثاني. الطبعة الثانية .
       ( المطلوب : الجزء الأول من الكتاب والخاص بقضية الاستقراء والاستدلال عند كارل بوبر ).
-     النحوي ، عدنان علي . " الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته " . دار النحوي للطباعة والتوزيع. الطبعة الثانية، 1407هـ، ص ص 179 - 213. ( المذاهب التي أثرت على الفكر التنظيري).
-     أبو الخير . واقع النظرية في الجغرافيا .  الأنموذج الائتلافي رؤيا نقدية تحليلية ، السنة السابعة، العدد الأول محرم 1416هـ - مايو 1998م .
المراجع الأجنبية
 -       Haggett Peter & Chorley J. Richard. 1971. " Models in Geography” The Camelot Press Lid, London.
-        Hanson. “Patterns of discovery ". Cambridge University .
-        Clark, M. 1988, " Horizons in Physical Geography ". Mc Milan. Pp 46-59 & Pp. 369-378
-        Gragery, D, " Horizons in Human Geography ", Mc Milan . Pp 9-14 & Pp. 29066.  
-        Harvey, D. 1969, “Explanation in geography ". St. Marun's Press, New York.
-        Jansen, A.H. 1980. “Geography: Its History & (concepts (Student's Guide)". translated by Fullerton, B., Ist ed. Harper & Row, London.
-        Johnson, R.J. 1979, “Geography of Geographers ". Edward Arnold Ch3. Pp 28-41 & 41-81.  
-        Kuhn, T.S., 1962, “The Structure of Scientific Revolutions ". University of Chicago Press, Chicago.
-        Popper. K. R. “The Logic of Scientific Discovery ". Harper & Torch Book- New York. 1965. Pp. 1-27.
-        Popper. K. P. “The Objective Knowledge " . Oxford.
-        Toulmin. “Four Sights and Understanding ". Harper & Row. New York. 1961.


(1)                                    Sykes, Sir Percy, A History of Exploration, London, 1949, pp. 49-50.
(2)                                Peake, M., & Fteure. H. Times and Places, Oxford, 1956, pp. 140-143.
الإلياذة : قصة الحرب
الأوديسة : قصة السلام .
(1)  محمد محمود الصياد، (1957)، الفكر الجغرافي وتطوره، مجلة الثقافة العربية ،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، العدد 3 .
(2)                                                Dreyer, J.L.E., Planetary Systems, Cambridge, 1906, p. 112.
(*)  نشأت الجغرافيا الرياضية على يد " تاليس " في القرن السادس قبل الميلاد، وتقدمت على يد اراتوستين في القرن الثالث. يتعلق الأمر بقياس أبعاد الأرض .
(1)  مصطفى عامر ومحمد عوض محمد وسليمان حزين ، قواعد الجغرافيا العامة، الطبعة الثانية، القاهرة، 1950م، ص8.
(2)  ضياء الدين علوي، الجغرافيا العربية في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، تعريب عبد الله يوسف الغنيم وطه محمد جاد، الكويت، 1980م، ص ص 29 - 30 .
(1)  شاكر خصباك  ، تطور الفكر الجغرافي، مكتبة الفلاح، الكويت، 1986م،  ص 71 .
(2)  المرجع السابق، ص 72 .
(1)  سورة العنكبوت ، الآية 5 .
(1)  الموسوعة العلمية العربية، بإشراف محمد شفيق غربال، دار العلم ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة 1965م ، ص 634.
(2)  جغرافية دار الإسلام البشرية حتى منتصف القرن الحادي عشر، الجزء الأول، القسم الثاني، ترجمة إبراهيم خوري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، دمشق 1983م، ص 140 .
(3)  Benny, B.J.L., Conkling, E.C., & Ray, D.M., The Geography of Economic systems, New Jersey, 1976, p. 226.
(1)  أغناطيوس كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، الجزء الأول، ترجمة صلاح الدين هاشم، القاهرة 1961م، ص 335 .
(2) شاكر خصباك ، مرجع سابق، ص 79 .
(3)  المرجع السابق، ص 158 .
(4)  وحدة الدراسة في الجغرافيا الأصولية هي الأرض بأكملها، أما وحدة الدراسة في الجغرافيا الإقليمية حسب قارينوس فهي الإقليم .
(1)  جمال حمدان، فلسفة الجغرافيا، محاضرات ألقيت على طلبة السنة الثانية في قسم الجغرافيا بجامعة القاهرة 1954م، ص5.
     " كانت " فيلسوف ألماني، يعد من أعظم الفلاسفة جميعاً .
     " آل فورسترز " الأب والإبن ، جغرافيان ألمانيان، صاحبا الكابتن كوك في رحلاته .
(1)  تجلت شهرته في مصنفه الإقليمي الشهير La Nouvelle geographie universelle الذي يتألف من 19 جزءاً .
(2)  انثروبوجغرافيا اصطلاح ألماني قلما يستعمل الآن، ويعني - حسب تعريف راتزل - ذلك الفرع من الجغرافيا الذي يدرس العلاقة بين الأرض وسكانها من البشر ، وهذا الاصطلاح مرادف للجغرافيا البشرية .
(1)  وليس هارتشورن، كما يكتب أحياناً .
(1)  خير ، صفوح ، المركب الهرمي الإقليمي والحضري في خطة المقدسي، محضارة ألقيت في " أسبوع العلم الثلاثون" بدمشق، بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة العالم العربي الجغارفي المقدسي ، 1990م .
نقلا عن : 
http://uqu.edu.sa/page/ar/49465

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رجاء كتابة تعليقك